مما يروى من أخبار المجانين ما حدث به أبو القاسم منصور بن العباس ببوشنج، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الشامي الهروي قال: حدثنا العباس الهاشمي قال: كنت والي مكة فجلست ذات يوم في المسجد وعندي جماعة كلهم لي معظم، فإذا بأعرابي مجنون طرأ علينا فقال: أيكم الأمير؟ فأشاروا إلي، فقال: أبواب موصدة وحجاب يمنعونه من الدخول المسجد يا من ترفع بالإمارة طاغيا ... هون عليك، فللأمور زوال فلئن أفادك ذا الزمان بصرفه ... لبصرفه تتقلب الأحوال لو أننا فصلنا البيتين اللذين قالهما الأعرابي عن سياق القصة التي وردا فيها لجاز لنا أن نلحقهما بباب الحكم والمواعظ التي يلتمس بها التحذير من الطغيان والتدبر في عواقب الأمور والتذكير بتقلب الأحوال وأن الدنيا لا تستمر على حال، ولجاز أن يعد ذلك الأعرابي من الوعاظ الذين لا يخشون في الحق لومة لائم ولعدت البيتان كلمة حق عند سلطان جائر تشفع لصاحبها في آخرته وتعلي من شأنه في دنياه، غير أنه ليس لنا أن نفصل البيتين عن سياقهما الذي يجعل من القصة شبكة متداخلة من العلاقات يفضي بعضها إلى بعض لتنتهي إلى صيغتها التي تقر لراويها بما وصف به الأعرابي من الجنون فتروى في سياق ما يروى من قصص عن الحمقى والمجانين. ولكي نفقه القصة على وجهها الذي ينبغي فهمها عليه، لا بد لنا من أن نقوم بتفكيك عناصرها التي تتكون منها بدءا من المكان الذي دارت فيه وانتهاء بحقيقة الجنون الذي وصف به ذلك الأعرابي وبينهما لا بد لنا أن نتوقف عند الشخصيتين اللتين حركتا الحدث وهما الأمير الهاشمي والأعرابي دون أن نغفل دور الجماعة التي ترقب الموقف عن كثب، هذه العناصر تبدو لنا متداخلة متشابكة ومن خلال تداخلها وتشابكها ينبني الحدث وتفضي على النهاية التي انتهت إليها. المكان الذي دارت فيه القصة هو المسجد، والمسجد في أساسه مكان للعبادة وهو بيت الله الذي يتساوى فيه عباد الله جميعا فتنمحي الفروق بين الغني والفقير والمأمور والأمير وتتجلى فيه المساواة في أوضح صورها حين ينصرفون جميعا للصلاة زاهدين في المراتب والمراكز التي تفرق بينهم في حياتهم العامة، غير أن القصة تكشف لنا عن أمر مختلف، فالجماعة التي كانت تحيط بالأمير كانت تخصه بالتعظيم وتحصره فيه، وله على النحو الذي تكشف عنه صيغة التقديم والتأخير «كلهم لي معظم» وهو ما يكشف أن ثمة خللا واضحا في العلاقات، إذ إن مقتضى أن يكونوا في المسجد أن يكون التعظيم متوجها لله وحده، وإذا كان من واجب جماعة المسلمين ألا تعظم غير الله تعالى فإن وجودهم في مسجد من مساجد مكةالمكرمة، قد يكون المسجد الحرام، أن يجعلهم أكثر حرصا على ذلك الواجب. وسؤال الأعرابي عن الأمير سؤال يوحي بغفلته عما كان لا ينبغي أن يغفل عنه مما هو ظاهر أمامه من تعظيم الجماعة للأمير وهي غفلة مهدت لوصفه بالجنون، غير أن للسؤال احتمالا آخر، إذ يمكن له أن يكون من باب تجاهل العارف للمشهد الذي هو ماثل أمامه وكأنما هو بسؤاله يؤكد حقيقة غائبة هي حقيقة المساواة بين الناس في المسجد على نحو يحتاج فيه المرء أن يسأل عن الأمير ليميزه عن بقية الناس. والأعرابي الذي طرأ على المجلس نقيض الجماعة التي كانت حاضرة المجلس، فالجماعة التي كانت تعظم الأمير واقعة في دائرة (العندية) التي تجعلهم خاضعين لهيمنته، فالقصة لا تتحدث عن جماعة جالسة في المسجد، بل عن أمير يجلس في المسجد «جلست ذات يوم في المسجد»، أما الجماعة فيحضرون في القصة بالتبعية للأمير «وعندي جماعة» وحضورهم في حقيقته إنما هو حضور عنده أو حضور من خلاله وكأنما هم في مجلسه وليسوا في المسجد مما اقتضى تعظيمه دون استشعار عظمة المكان نفسه، إن الأمير يستحضر الجماعة لكي يمحوها، يستحضرها لكي يمنح نفسه حضورا أشد كثافة وتمكنا يستعيض به عند روايته للقصة عن مجد سابق، إذ يبدو أنه روى هذه القصة بعد عزله عن ولاية على نحو ما يمكن أن يدل عليه قوله: «كنت والي مكة». وأفراد هذه الجماعة لا يحضرون باعتبارهم أشخاصا متمايزين يعرفون بأسمائهم أو سماتهم ولا يجيء ذكرهم باعتبارهم قوما «عندي قوم» فيكونون قادرين على أن يقوموا بأمر أنفسهم، وإنما هم جماعة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني التسليم والانقياد حتى عرف عام التسليم لمعاوية بن أبي سفيان بالخلافة بعد الحرب الضروس بينه وبين علي بن أبي طالب بعام الجماعة، ولعل هذا الانقياد والتسليم والاستسلام الذي تحمله الكلمة هو ما جعلها تطلق على كل ما اجتمع فاستعملها العرب في غير الناس حين قالوا جماعة الشجر وجماعة النبات. والمسجد لا يحضر باعتباره محلا للعبادة إنما باعتباره فضاء يوفر مجالا مفتوحا ومغلقا في آن واحد، مغلقا حين تكون الجماعة التي حول الأمير هي نفس الجماعة التي تحيط به في مجلسه، والآداب المرعية في المسجد هي الآداب المرعية في مجلس الأمير، ومفتوح إذ يتيح فرصة أن يطرأ ذلك الأعرابي عليه دون أن تكون هناك حواجز فهو يوفر المكان الملائم الذي يسمح بوجود كيانين متناقضين يتجاذبان أطراف الحدث وينتهيان به إلى ما انتهى إليه. وإذا كانت الجماعة تكرس نظام الحكم وتعزز آدابه وتقوي من سلطة السلطان بخضوعها له، فإن الأعرابي لا يطرأ على المكان فحسب أو على مجلس الأمير أو الجماعة الجالسة عنده، وإنما يطرأ على النظام الذي يتحكم في الجماعة ويجدد طبيعة علاقتها بالأمير. ونسبة الرجل الذي طرأ على الأعراب ليست مجرد نسبة طارئة على الجماعة التي ينتمي إليها، بل هي إحالة إلى نسق ثقافي مختلف يرتبط بالرغبة العارمة في الخروج عن الآداب التي يقتضها مقام الإمارة ويفرضها الوقوف في حضرة الولاة مما تردد ذكره عند الحديث عن مواقف الأعراب في مجالس الخلفاء والأمراء والولاة حتى تأصل ذلك فيما ذهب إليه ابن خلدون من أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك، وإنما عنى بالعرب الأعراب الذين وصفهم بأنهم أكثر بداوة من سائر الأمم وأبعد في مجال القفر وأغنى عن حاجات لاعتيادهم شظف وخشونة العيش فاستغنوا عن غيرهم فصعب انقياد بعضهم لبعض. القصة تكشف عن اصطدام بنيتين ثقافيتين في لحظات زمنية متعاقبة تسعى كل منها أن تمحو الأخرى، يتمثل الزمن الأول في الوالي الهاشمي الذي تستقر له آداب السلطة والسيطرة تكرسها الجماعة التي كانت تحيط به وتعظمه، ويتمثل الزمن الثاني في الأعرابي الذي يطرأ على المجلس مشكلا اختراقا لبنيته ثم يسأل عن الأمير وكأنما كل ما كان يحيطه من تعظيم غير قادر على التعريف به ثم ينشده تلك الأبيات التي تهدف إلى زعزعة ثقته بنفسه واعتداده بما تحقق له من مكانة، أما الزمن الثالث فهو زمن رواية النص حيث يتم احتواء ما قام به الأعرابي وذلك بنسبته إلى الجنون الذي يفسر تجاهله لموقع الوالي ثم الجرأة بإنشاده ما أنشده من الأبيات، وحين يكون ما فعله الأعرابي ضربا من الجنون يصبح العقل هو ما كانت عليه تلك الجماعة التي كانت تحيط بالوالي وتعظمه. الرواية تعيد صياغة القصة على نحو مضلل ينقلها من أدب الوعظ إلى أخبار المجانين ويفضي بها إلى تكريس قوة السلطة وحضورها وحقها في أن تحظى بالإكبار والتعظيم واعتبار الخروج عنها ضربا من الجنون، لذلك كان حرص الوالي نفسه على أن يكون هو من يروي القصة بحيث يتمكن من صياغتها على النحو الذي يعزز مكانته وسلطانه ويمنحها الصيغة التي أراد لها أن تشيع فيها بين الناس ويتناقلها بعده الرواة مسلمين بمكانة الوالي وحسن أدب الجماعة وجنون ذلك الأعرابي. إن هذه الحادثة إذا ما وقعت فينبغي استثمارها وإعادة إنتاجها بحيث يتم توجيهها لكي تحول دون وقوع أية حادثة مماثلة، أما إذا ما كانت مختلقة أصلا فإنها تتحول إلى أن تكون أداة من أدوات تكريس الآداب السلطانية تردع من يفكر في الخروج عن مقتضى الأدب في مجالس الولاة والأمراء والخلفاء، حين يعلم أن جل ما سوف ينتهي إليه أمره أن يكون مجنونا يتفكه الرواة بسرد خبره في مجالس السمر.