جذبتني رواية مطلق البلوي «لا أحد في تبوك» لقراءتها لأنها تحمل اسم مكان أثير له بصمات لا تمحى في وجداني، يختزل أربعة عشر عامًا من شبابي قضيتها في تبوك منذ عام 1968 وحتى عام 1982، لم يترك الكاتب حارة من حواريها ولا معلمًا من معالمها إلاّ وذكره في هذه الرواية، وفضاؤها يتسع لكثير من الأمكنة والمعالم في المنطقة الممتدة عبر الجزيرة العربية والشام والعراق، فهي رواية تحتفي بالمكان والزمان على حد سواء، تتكون من مدخل وستة فصول، فهي سباعية التكوين بما ينطوي عليه هذا العدد من بعد روحي شعائري، والمدخل الذي يتكون من مشهدين: مشهد واقعي، وآخر تخييلي مقتبس من فيلم أمريكي يضيئان رؤية الكاتب ويسلّطان الضوء على ما يريد أن يفضي به من خلال الرواية. ثمة عنصران دلاليان رئيسان: الأول الأم العجوز، وهي شخصية تهيمن على أجواء الرواية وتمثل أيقونة ذات بعد رمزي على المستوى الخاص، وشخصية صدام الأيقونة الدلالية الرئيسة على المستوى العام، وهذان العنصران يشكلان ركيزتين أساسيتين للبنية الدلالية، فهما في الرواية يمثلان التحدي الأكبر لبطل الرواية من ناحية، ولعالم الرواية من الأشياء والأحياء من الناحية الأخرى، يتلازمان على امتداد الرواية، أمّا بقية الشخصيات فهي ركائز للبنية الدلالية ومرايا مسطحة تارة ومقعرة تارة أخرى، تبالغ في تكبير الشخصية الرئيسة أو تختصرها وفقًا للموقف المطلوب داخل الرواية. وعبر تجليات الحلم تارة، والحقيقة تارة أخرى، تتدلى هاتان الأيقونتان من سقف الأحدوثة الروائية، ولعل المشهد الذي رسمه الكاتب في أول الرواية ينبئ عن ذلك، فقد ارسم لوحة حلمية تجلى فيها صدام -بما يرمز إليه من معنى بوصفه أحد الرمزين الرئيسين- ببزته العسكري وهو يصوب مسدسه إلى رأس الراوي، يطارده وهو يركض مذعورًا في أرض فضاء، مرتجف القلب كعصفور أغرقه البلل، وهذه الصورة تختزل اللحظة التاريخية برمتها، القامة العسكرية والعصفور المرتجف «الجلاد والضحية»، رمز يستوعب حقبة تاريخية بأكملها على المستويات جميعها اجتماعيًّا وتربويًّا وسياسيًّا وحضاريًّا، فإذا كان منصور بطل الرواية، وهو بطل معضل يشاكل النموذج الوجودي العربي على امتداد الحقبة كلها، يحاول أن يتصالح مع ذاته ومع مرحلته التاريخية فيتردد بين الانتماء واللا انتماء، يمارس الحرية بكامل متعها على طريقته الخاصة عبر رؤية رومانسية في أجواء غير رومانسية، وهنا تبرز الإشكالية، إذ يتوق إلى الحرية ويمارسها في إطار من الخوف والذعر، إنه يحاول أن يعيش منفلتًا من قبضة الحصار الاجتماعي متمردًا على أعراف ومحرمات في لحظة صدام دامٍ بين قوى مختلفة، لذا نجد الراوي وهو البطل الذي يتماهى في النموذج المنتمي إلى مجتمعه ووطنه والمتمرد عليهما في آن، حيث يجد نفسه منشقًّا على ذاته، تائهًا بين نوازعه الشخصية والتزاماته الاجتماعية والوطنية، وصدام هنا لا يمثل الشخصية التاريخية المحددة التي قامت بغزو الكويت فحسب، بل هو يمثل قوى التسلط والخوف في بعدها الاجتماعي، ولذلك يحرص منصور بطل الرواية على أن يقرن بين وجه صدام، ووجه أمه التي لا تحبه، ولا ترغب في رؤية وجهه؛ بل تنغص حياته كلها، وتدفع بابنها إلى الموت من أجل أن تحصل على المال، وتتمنى أن يذهب ابنها الآخر وهو الراوي منصور ليلتحق بالمقاتلين من أجل أن تحصل على المال، فسليمان المحارب، ومنصور الحالم الأخوان اللذان يمثلان موقفين مختلفين متفقين في ذات الوقت، وهما الشقيقان غير المتناقضين، أو المتخاصمين، بل هما يمثلان تيارين داخل المجتمع: أحدهما وهو منصور يتجه شمالاً إلى الشام من أجل أن يمارس هوايته المفضلة ممثلة في الحب وعشق الجمال، والآخر يتجه جنوبًا ليقاتل الجحافل الزاحفة صوب الغرب لتقمع الحياة والأحياء، قوى تستنبت داخل التربة الاجتماعية. وهذه القوى التي تحتضنها تبوك بوصفها فضاءً مكانيًّا مفتوحًا تتجادل في ساحته الواسعة الثقافة التى تضيّق الحيز الحضاري والثقافي عبر أساطير لا تمت إلى الدّين بِصِلة، وترى أن هذا المجتمع التبوكي يخضع لمقولات متوارثة عن محدودية العدد واستحالة النمو، وتلك التي تحمل رؤية مغايرة يشهد لها هذا التوسع العمراني الهائل الذي يدحض تلك المقولات، ويؤكد الانفتاح الثقافي على كل المنجزات الحضارية الإنسانية، فمنصور وسليمان رمزان يبوحان بالكثير : أحدهما يذهب للدفاع عن الوطن والآخر يتوق إلى فضاء الحرية. اللافت في هذه الرواية الجماليات الجديدة التي استثمرها الكاتب؛ ففي الفصل الأول استنبت الخيوط التي تشد الفصول بعضها إلى بعض في وحدة متماسكة تفضي برؤية الكاتب، فقد لجأ إلى حيلة فنية حين جعل منصور بطل الرواية، يخاطب الشخصية الأيقونية في الرواية ممثلة في صدام، وبأسلوب مباشر فيه نبض شعري حاول أن يعبر عن الأزمة المستحكمة، وأن يستنطق الواقع الذي أوجدته هذه الشخصية بما ترمز إليه من إلغاء لإنسانية الإنسان، ومن انزياحات للحالة الإنسانية، لقد عمد الكاتب إلى إنطاق الراوي بكل ما أراد أن يقوله دون أن يبوح باسم الرجل الذي يخاطبه، لقد ذهب بعيدًا حين مزج بين موت الجسد وموت الروح وموت الفكرة، فهو في خطابه أراد أن يقول بطريقة جمالية إن ما حدث كان أشبه باستخراج الجني الذي يسكن في داخل البطل من جسده، مستثمرًا ما كان يجري على أيدي البعض ممّن يزعمون أن الإنسان يمكن أن تتلبسه الجان، وهو إنما يعبر عمّا أحدثته عملية الغزو من تطهير للنفوس الواهمة من أوهامها. إن هذا الفصل جعل منه الكاتب حقلاً حواريًّا تتعدد فيه الأصوات، فهو في البداية يتحدث بصوت منصور بطل الرواية: «سيدي.. شكرًا.. أسديت لي أجمل معروف.. أخرجت الشيطان من جسدي.. طهرتني.. حررتني من الخوف الساكن في داخلي.. لم أكن أعلم أن جسدي يسكنه مخلوق كريه منبوذ ملعون.» ص 11 لقد حدد الكاتب منذ الفصل الأول نماذجه، وبناء النموذج في الرواية من المهمات الجمالية الصعبة، فبعضها يتشكل من الصفات الجوهرية التي ينجح الكاتب في التقاطها لتمثل شريحة اجتماعية بعينها مضيفًا إليها سمات فردية خاصة تكسبها البعد الفني، وبعضها يسمو به الكاتب ليتحوّل إلى رمز، وأمّا النوع الثالث فيبدو أقرب إلى النمط، وقد استطاع مطلق البلوى أن يجعل من منصور بطل الرواية نموذجًا جماليًّا يمثل شريحة اجتماعية في مرحلة من الحراك المفصلي في تاريخ المجتمع، فهو -وإن انخرط مع طائفة من الشباب الذين ينتمون إلى الشريحة الاجتماعية الصاعدة من الطبقة المتوسطة- له سماته الخاصة التي تلخص سمات تلك الشريحة حيث الانفتاح على بيئات جديدة؛ فهو يسافر إلى الشام مع زمرة من رفاقه الباحثين عن المتعة، ولكنه يتميز عنهم بثقافته ونزوعه إلى المثالية، إذ يتعلّق بفتاة غجرية (سهام )، ويحاول أن يصطفيها من خلال نزوعه الرومانسي فتصبح رمزًا للخلاص من القهر والكبت يتوق إليها متخذًا منها مثالاً للحرية والانعتاق من ربقة الحصار الاجتماعي، والنفسي، في الوقت الذي يجعل فيه من أمه العجوز رمزًا للقيود الذي تكبله، بل تتجاوز ذلك إلى أبيه الذي لم يتزوج من غيرها؛ لأنها تحاصره، فهي تجسد تلك القيود الاجتماعية، وهو يجعل من المرأتين سهام النورية والأم العجوز ممثلتين إحداهما للقيد والثانية للحرية “امرأة تريد قتلي ولا تزال.. وأخرى أستميت لأموت على صدرها.. شيطان وملاك” ص12 يعمد الكاتب إلى الفانتازيا الحلمية، فيجعل منصور يتحدث وهو ميت يبوح بمكنونات صدره، يروي التعليقات التي أعقبت موته على لسان أصدقائه إياد وحسين الحساوي، وهما مجرد أنماط تمثل عينات من المقيمين على هامش المجتمع، ويوغل في رسم الأجواء التي أعقبت موته، حيث التراب والغيوم السوداء، ويعمل على أسطرة البطل منصور الذي أصبحت صورته تمتد ما بين السماء والأرض في ذلك الجو القاتم الذي أعقب موته، وجعل من موته عبر السرد العجائبي حدثًا كونيًّا أسطوريًّا، وهو إذ يفرغ من هذه الفنتزة المقصودة يعود إلى الواقع فيعيد إنتاج الحالة التي أدت إليها الحرب بعد غزو الكويت، وعمل الكاتب على رصدها إبداعيًّا من خلال النموذج الذي تمثل في (منصور)، وفي شخصيات أخرى لم ترقَ إلى مستوى النموذج مع الشخصيتين الأيقونيتين (الأم والزعيم)، وربما كان إياد وجمعان وعناد وحسين والحساوي وصالح أقرب إلى الشخصيات النمطية، فهي أشبه بتضاريس المكان، وكذلك عبده وقايد. ولكن البطل الحقيقي في الرواية هو المكان بلا منازع، هذا المكان مسكون بروحه الخاصة، لذا يحرص الكاتب على أن يخلع عليه صفات متعددة بعضها له عبق التراث ورائحة الأسطورة (كيف هو غضبها أهو كسدوم الملعونة تبوك مدينة الانتظار المر.. مدينة الأفراح.. مدينة الأحزان.. الجامع القديم والقلعة والقبور القديمة....إلخ). وبعضها صفات إنسانية أنثوية، فهي متمنعة متمردة ضعيفة قوية، وهي مسكونة بالفرح والحزن والغياب والأزمنة المستباحة، يناجيها الكاتب، وكأنما يناجي معشوقته، ويتحدث عنها بوله وغضب، هي قرينة الذات، فهو يخشى أن تستباح فيستباح هو، وكأنما الاعتداء عليها اعتداء على منصور، وهو إذ يتماهى في المكان يتماهى في (سهام)، ولا يجد حرجًا في الاستطراد من الحديث عنها إلى الحديث عن تبوك، والمدن كالنساء عند منصور، ولكن تبوك طراز آخر لا يزيد عدد سكانها ولا ينقصون، وتبوك امرأة لعوب ربما تشبه سهام.. وربما تشبه آمنة، وربما تشبه العجوز النورية كما يقول منصور. يخصص الكاتب الفصل الثاني من الرواية بفقراته الست للحديث عن تبوك، وحتى حينما يتحدث عن الشخصيات، يتكلم عنهم وكأنهم جزء من تضاريس هذا المكان الأثير، ويتخذ حديثه طابع الغضب تارة، وطابع العشق تارة أخرى، ويخلع عليها تقلبات حالة منصور المزاجية والنفسية؛ ولكنه في كل مقطع من مقاطع الفصل يكون الاستهلال عن تبوك: استهل الفقرة الأولى بقوله إنها لا تشبه أحدًا، وفي الفقرة الثانية يتحدث عن خروج الناس من تبوك فخلت شوارعها وعمّها السكون، وفي الفقرة الثالثة يصف نفسه بأنه بطل تبوك الأوحد، لأنه سيبقى وحده فيها، ومحور حديثه عن الحرب ينفقه في الحديث عمّا حدث في تبوك، ومحطاته دائمًا هي حواريّ تبوك ومعالمها وبيوتها وشوارعها، وفي الفقرة الرابعة يكون تجواله في تبوك، وفي الفقرة الخامسة والسادسة كلها محورها تبوك، أمّا الفقرة السابعة فمحورها الحديث عن الشيطان (شيطان الشعر الذي هرب من منصور بسبب العجوز وصدام)، وهما الشيطانان اللذان يطاردانه أينما ذهب. المكان فيما يتعلق بتبوك معالم محسوسة وذكريات وحياة، أمّا بالنسبة للأمكنة الأخرى كالشام -مثلاً- فليس أكثر من ساحة حدث له خصوصيته المتصلة بالشخصية، إنه يضيء حالة محددة، عبره تنمو الوقائع ويتطور السرد، ما يهم منصور هو (سهام)؛ أمّا الشام كمكان له تضاريسه وأبعاده فليس حاضرًا، لذا كان الفصل الثالث من الرواية مفصليًّا، لأنه يتأسس حدثيًّا على الرحلة من دمشق -بوصفها ديار (سهام) وليست أي شيء آخر- إلى تبوك، والانتقال عبر المكان هنا يستغل في تطوير وتنمية القصة من ناحية، وفي الكشف عن النماذج البشرية من ناحية أخرى، حيث ينجح الكاتب في خلق بؤرة توتر شديدة تضع الشخصيات جميعًا في أزمة حقيقية، فكل الذي يعني منصور هو خيال محبوبته، وحرصه على أن يدس صورتها في أسفل الشنطة، وأمّا (عناد) فمعني بالدرجة الأولي بالوصول إلى تبوك بوصفها مكانًا آمنًا قبل أن تغلق الحدود، وتبدو المفارقة شديدة الوضوح حين تنقلب الصورة، وتصبح تبوك مكانًا شديد الخطورة يهجرها أهلها بحثًا عن مهرب، وتتكشف شخصية أبو عبده نمطًا مغامرًا باحثًا عن المال ساعيًا إلى استغلال الظروف، فهو السائق الذي يتكفل بإيصال المجمعة القادمة من رحلة المتعة إلى تبوك في وقت اشتد فيه الخطر بعد أن نشبت حرب الخليج، وتأزم الوضع تمامًا، عندها يجد أبو عبده فرصته (حبيب قلبي.. الفلوس تدفع مقدمًا كما اتفقنا ثلاثة آلاف ريال، الناس في حرب، وأنا أغامر معكم بحياتي.. عناد هذا كلام ما ينفع.. الفلوس ما لها قيمة! أمام حياة البني آدم) ص85 يشتد الحوار وتتباين اللغات، ويظل صوت منصور الداخلي مشغولاً بهمّه الخاص فلا يعنيه ممّا يدور حوله سوى سهام التي تتجاوز حدود المكان والزمان والجغرافيا والتاريخ، لقد لخص الراوي ما طرأ من تحوّل على شخصيات زملائه (الأنماط): (لم أتوقع أن أرى عنادًا المسيطر على من حوله يتحوّل إلى قط أليف، وأن يتحول نايف إلى أبله، ألجمته الصدمة، أمّا أنا فلا أختلف عنهما سوى أنني أحاول، ثم أحاول أن أصمت حتى لا أكون أضحوكة) ص76 تحتشد الرواية بكثير من الحوارات التي تبدو ذات طابع تاريخي تسجيلي، ولكنها تكشف عن ثقافة الشعوب إبان الأزمات، وتميط اللثام عن وقع التعبئة الإعلامية تاركة آثارها العميقة في وجدان الأشخاص العاديين، ويلجأ الكاتب إلى الانتقال من راوٍ إلى آخر، وإلى مسرحة المشهد أحيانًا، وإلى ما يبدو أنه تعليق من الكاتب أحيانًا، ويصطنع منهج المفارقة كما أشرت من قبل حيث تتجاور الوقائع والأحلام، ويتداخل الماضي والحاضر، وتتقاطع الأزمنة، وتتقلب الأمزجة والأحوال، وتتنوع اللغات والأصوات، وتتجاور مفردات السخط والرضا وأسماء الأماكن والنساء، ويتنقل السارد بين الخيال والواقع والباطن والظاهر، وتنتقل العدسة من مشهد إلى آخر، وما بين الغياب والحضور تتسع الفجوة وتضيق، فسليمان الذاهب إلى الحرب هو الأمل الباقي للأسرة بعد أن انخرط منصور في حياة أخرى، فهو (الحاضر الغائب)، أمّا سليمان فهو الحلم المرتجى (الغائب الحاضر). الثنائيات في الرواية هي الدينامو المحرك الذي يتصاعد بالحدث وينميه: العجوز والزعيم، منصور وسليمان، شلة الأنس المحيطة بمنصور وجماعة المسجد، سهام وآمنة، الراحلون والباقون، عبدالرحمن المتدين ومنصور المتيم، تبوك والشام، الخال سعود والأم، وهذه الثنائيات تطال اللغة والخطابات داخل الرواية: اللغة الشعرية والمناجيات الرقيقة، في مقابل اللغة السوقية (الدنيا بنت ستين كلب ما فيها خير أبدًا) ص 85 جمعان وعبده في مقابل عبدالعزيز وعبدالرحمن، يذهبان إلى الجامع للصلاة بينما يذهب منصور وعناد إلى الشام للمتعة، والمفارقة في الرؤية سيدة الموقف يفجرها الكاتب بين الحين والحين، فعائشة ونورة أختا منصور خادمتان في البيت لأبناء الأسرة من الذكور بامتياز، محرومتان من أي حق من الحقوق، يضربهما الأبناء لأدنى شبهة، بينما يسمح منصور لنفسه بحرية العشق والمتعة والسفر. من الثنائيات البارزة في الرواية الحب والحرب، الأحداث الخاصة والعامة، الرواية بكل ما فيها تنبني على خلفية الحرب، بينما تتسع لوحة السرد لتستوعب التفاصيل الدقيقة من حب ولهو وممارسات يومية، وطموحات فردية، السفر والاستقرار الصلاة والدعاء والزواج واللهو، ويتسع السرد للشعر والحكمة والسخرية، وتتداخل الذكريات بالتأملات، تستخدم تقنيات السرد والزمن من استرجاع على استباق وتلخيص، ولكن اللافت حقًّا في هذه الرواية غلبة الخطاب على التاريخ في بعض الأحيان وفقًا لمصطلح الشكلانيين الروس، بمعنى أن الحدث يتوقف ليفسح المجال للتجليات الخطابية من تأملات واستذكارات وتعليقات وخواطر، وليس هذا عيبًا بنائيًّا، أو خللاً جماليًّا، وإنما هو منسجم مع طبيعة الرؤية في الرواية التي اختارت زمنًا تاريخيًّا فارقًا في المنطقة، حيث أراد أن يضيء دواخل الرموز الاجتماعية، ويقوم بعملية مسح إبداعية لما يدور في زمن الأزمة كاشفًا عن التوترات والتباينات في البنية الاجتماعية المتحفزة للتحوّل، ومن المعروف أن ما يعقب زمن الحروب غالبًا ما يكون تحوّلاً مفصليًّا، إن الزمن في الرواية زمن تاريخي بامتياز، وإن كان المقترب في إطار هذا الزمن مقتربًا نفسيًّا، فضلاً عن أن الرواية تمور بالكثير من المفارقات ليس على مستوى الأحداث فحسب، بل على مستوى الشخصيات أيضًا، وكذلك الأمكنة، فمن دور العبادة إلى دور اللهو إلى الدور السرية والمقاهي، ومن الأماكن الواقعية إلى المتخيلة، ومن مشاهد الحياة إلى مشاهد السينما والمدارس. منصور شخصية إشكالية، فهو رومانسي حتى النخاع في أجواء غير رومانسية، مثالي النظرة إلى المرأة كشعراء بني عذرة في وسط يسبح في أوحال الشهوة، مطارد، يعيش وسط دوامة من الصراع حوله، وهو لا يشعر إلاّ بصخبه الداخلي في توق أزلي إلى الشمال، مسكون بالحب والكره، حبه لسهام وحبه لوالده وأخيه سلمان، يعيش احتدام الحياة في عز الموت، يتنازعه قطبان متناقضان، يعاني ملحمة الحب والحرب، نموذج معضل بحق، والكاتب يربد أن يختزل من خلاله حقبة تاريخية بأكملها، إنه يحاول أن يقتنص نبض حِراك اجتماعي في لحظة تاريخية مأزومة، وكأنه يكتب مدوّنة تتعرى فيها الذات والمجتمع والأمة، لحظة تزييف للوعي، التمزق ينتاب ثقافة الأمة، فثمة مَن يريد أن يدمر مقدراتها وإنسانيتها وعقلها، وهناك مَن يريد أن يدمر روحها، ومنصور في الرواية تائه بين حلم صغير غيّبه عن الوعي بحقائق الواقع، وبين أسرة مزقتها الحرب ومدينة أهدرت سكينتها على دقات طبول حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، هكذا تفعل الحروب بالإنسان، هناك من يتقوقع بعيدًا عن تحديات المرحلة متدثرًا بلباس الدّين، وهو لا يعلم أن هذا الدين العظيم يأبى التقوقع، ويرفضه بل ويدينه، من هنا كان هذا التمزق بين سهرات السكارى الذين استباحوا لأنفسهم اختراق منظومة القيم المجتمعية كلها، وتلك الفئة التي أعطت لنفسها الحق في المطاردة الشرسة بلا هوادة. لقد مات الأب، وتوفي سليمان في الحرب، وفقد منصور من أحب، ثمة تقابل بين الموت وبين الحياة، وهذا التقابل يناظره صراع من نوع آخر بين الشيخ (أبو عمر) وعبدالرحمن من ناحية، ومنصور من ناحية أخرى، صراع بين ثقافتين لا تعرفان الوسطية، جاءت الحرب لتفجر التناقضات بين هذين الفريقين، ثقافة التطرّف التي نمت وآتت أكلها، وثقافة التحرر والتحلل، بينما غابت الثقافة الوسطية التي تؤمّن سلامًا اجتماعيًّا وفكريًّا. لم تكن هذه الرواية لتنحاز إلى إحداهما، ولكنها أرادت أن تتشكل في فضاء جديد بمنظور جديد، يعيد إنتاج المعطيات التي أفرزتها المرحلة مسلّطة الضوء على الخلل الثقافي الذي أنتج انحيازات مريرة شرخت الوجدان الإنساني، تصدعت منظومة القيم وتشرذمت الولاءات بسبب جنون العظمة وأمراض الزعامة من ناحية، وبسبب زيف الكلمة التي تثلم سيفها على مذبح الانتهازية والأنانية والادّعاء، إنها رواية تمتلك جرأة استثنائية وتؤرّخ إبداعيًّا لحقبة مهمّة من تاريخ المنطقة، والتوثيق الإبداعي من أصعب أشكال التوثيق، لقد كانت رسالة النورية (سهام) ختام الرواية، وهذه إضاءة لم تكن لتخطئها القراءة المتأملة، ولكن المسألة لا تنتهي عند هذا الحد، فثمة كلام كثير ينبغي أن يُقال عن جماليات الرواية، ورؤية صاحبها بكل أبعادها، وهذا يقتضي أن أعود إليها ثانية، ولابد من البحث عن الباقين في تبوك ليروا حكاية ذلك المخاض العسير. * ناقد أدبي عمان - جامعة جدارا للدراسات العليا