لا يكاد أحد ممن يتابع أعمال الكاتبة السعودية رجاء عالم أو يعمد إلى وضع ضبط بعناوين ما أصدرته من أعمال أن يذكر أو يتذكر أول عمل أصدرته في الثمانينيات الميلادية تحت عنوان (أربعة صفر)، وربما يعود تجاهل هذا العمل أو الجهل به إلى أن تلك الرواية لم تصدر إلا في طبعة محلية لم تنل حظها من التوزيع الذي حظيت به أعمالها الأخرى التي صدرت عن دور النشر والتوزيع في بيروت. وقد ساهم في التعتيم على تلك الرواية أنها صدرت في خضم الهجمة الشرسة التي قادها المتشددون في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي ضد الحداثة في السعودية بشكل عام وضد نادي جدة الأدبي الثقافي الذي نشر الرواية عام 1987 على نحو خاص، وهو الأمر الذي جعل النادي يتردد في توزيع الرواية، كما اضطر في وقت لاحق إلى حجب جائزة الإبداع عن الشاعر محمد الثبيتي ويوقف تماما توزيع ديوانه (التضاريس) الصادر عن نفس النادي، وقد حجبت تلك الحملة الشرسة أي تناول نقدي لتلك الرواية، إذ لجأ كثير من النقاد آنذاك إلى الصمت انتظارا لسكون العاصفة التي لم تكن تتردد في تكفير وتفسيق كل من وما يمكن أن ينتسب إلى الحداثة إبداعا أو تنظيرا أو حتى عرضا عابرا لعمل يمكن أن يصدر لأحد الكتاب المنتمين إليها. ولم يشفع لتلك الرواية الأولى للكاتبة رجاء عالم أن فازت مخطوطتها قبل صدورها بجائزة الشرف في مسابقة ابن طفيل التي ينظمها المعهد العربي الإسباني في مدريد مشرعة الباب لفوز الكاتبة بعدد من الجوائز الأدبية بعد ذلك بدءا من جائزة جوهر السالم للمسرح في الكويت إلى جائزة مركز رؤية في الإسكندرية وانتهاء بجائزة اليونسكو لإبداع المرأة العربية بمناسبة مرور 60 عاما على تأسيس المنظمة العربية للثقافة والعلوم وجائزة خالدة سعيد التي يمنحها المنتدى الثقافي اللبناني في فرنسا وأخيرا جائزة البوكر مناصفة مع الروائي المغربي محمد الأشعري. وقد ساهم في تجاهل هذا العمل الأول للكاتبة ما كان ينعاه عليه قراؤها من أسلوب يبدو معقدا ويجعل من قراءة ما تكتبه عملا لا يخلو من الصعوبة، وقد عبر عن ذلك عزيز ضياء وهو أحد رواد الأدب في السعودية حين أعلن في أعقاب مشاركة رجاء عالم في إحدى الأمسيات القصصية في نادي جدة الأدبي الثقافي أنه لم يفهم شيئا من القصة التي قرأتها الكاتبة وقد أثارت الكاتبة عاصفة من الغضب ضده حين ردت عليه قائلة إنها لا يهمها ألا يفهمها أحد. وإضافة إلى ما كان ينعاه قراؤها من صعوبة أسلوبها فقد نعى عليها بعض من النقاد الذين كانوا يتابعون مقالاتها التي كانت تنشرها في الملحق الثقافي لجريدة الرياض من أنها لا تعبر بشكل واضح عن هموم الفئات المهمشة والمسحوقة ولا تعبر كذلك عن طبيعة الصراع الاجتماعي والنضال القومي في زمن لم يكن يبحث فيه أولئك النقاد إلا عما يجدون فيه تعبيرا عن هذا الصراع أو تمثيلا للطبقات المسحوقة المهمشة على نحو تم فيه الخلط بين الأعمال الإبداعية وشعارات النضال والصراع السياسي. وحين استطاعت الكاتبة أن تكسب الاعتراف بها بعد أن لفتت أعمالها عددا من النقاد والدارسين العرب وتستقطب اهتمام الإعلام بالجوائز التي تحصدها أعمالها ظل عملها الأول (أربعة صفر) محاصرا في محليته ومحصورا في النظر إليه باعتباره محاولة أولى لكاتبة ناشئة تضطرب في البحث عن الفن الذي تحقق من خلاله هويتها وتحدد عن طريقه مسارها في الكتابة وهو الأمر الذي يفسر إصدارها ثلاث مسرحيات تلت عملها الروائي الأول هي (الرقص على سن الشوكة)، (ثقوب في الظهر)، و(الموت الأخير للممثل)، وقد صدرت الأعمال الثلاثة دفعة واحدة عن دار الآداب في لبنان، إضافة إلى مجموعتها القصصية الوحيدة (نهر الحيوان) والتي صدرت عن نفس الدار في أعقاب صدور مسرحياتها الثلاث، وكذلك سلسلة (قرية النور) للأطفال التي اكتفت منها بالجزء الأول الذي صدر عن المؤسسة السعودية للأبحاث والنشر في لندن تحت عنوان (حسن الأخضر) مسجلة بذلك حركة قلقة تتذاءب بين الكتابة الروائية والكتابة للمسرح والكتابة للطفل وكتابة القصة القصيرة وذلك قبل أن تستقر أخيرا وتقرر العودة إلى كتابة الرواية مضربة عن نشر مسرحية رابعة لها فرغت من كتابتها تحت عنوان (360 كوة لوجه امرأة)، كما تراجعت عن نشر مجموعة من مقالاتها تحت عنوان (حين انفرط الأبيض)، وهي المجموعة التي اعتذر نادي جازان الأدبي عن نشرها، مشيرا إلى أنها لا تعبر عن هموم واهتمامات البسطاء والفقراء، وذلك في خطاب تلقته الكاتبة من رئيس النادي آنذاك القاص عمر طاهر زيلع والذي اقترح عليها أن يتولى نادي جدة الثقافي الأدبي إصدار مجموعة المقالات تلك غير أنها آثرت عدم نشرها تاركة إياها مع أعمال أخرى مخطوطة لم تر النور بعد. ولم تكن عودة الكاتبة لفن الرواية عودة لتقنية السرد بقدر ما كانت ملامسة لهوية خاصة بها في الكتابة كشف عنها الناقد محمد العباس حين كتب (.. ولأن كتابتها توحي بخصوصية وتفرد أسلوبي يمكن القول إنها أقرب أسلوبيا إلى مفهوم النص البصمة الذي يميزها كصياغة على اعتبار أن الرواية كعمل فني تتميز بسمة العلامة، خصوصا في علاقتها بالتاريخ الذي يحضر في سردها الملغز كعمق روحي وشعوري، وكمظلة لذات تمارس تمددها الأفقي والعمودي لتنجز مغامراتها اللغوية). عودة رجاء للرواية عودة لحامل قادر على التعبير عن رؤيتها للعالم والحياة وفق تقنية لا تنفصل عن تلك الرؤية حتى وإن بدت تلك التقنية متمردة على أصول الفن الروائي وآليات السرد، ولذلك حين أخذتها غواية التجريب بعيدا عن هذه البصمة الإبداعية أو الهوية الخاصة فضلت أن تتخذ لنفسها اسما مستعارا هو (هاجر المكي) الذي حمله غلاف رواية (غير وغير) الصادرة عن المركز الثقافي العربي وهي نفس الدار التي تولت إصدار أعمالها الروائية ابتداء من روايتها (طريق الحرير) وانتهاء بآخر رواياتها (طوق الحمام). وقد لا نحتاج إلى كبير عناء لندرك أن (هاجر) توشك أن تكون مقلوب اسم (رجاء)، أما المكي فقد كان لقب جدها الثاني الذي جاء من المغرب الأقصى مهاجرا ليجاور في الحرم المكي ويصبح بعد ذلك واحدا من علمائه المعروفين ويكتسب المكانة التي أهلته لحمل اللقبين معا (العالم والمكي)، وقد استثمرت رجاء في تجربة كتابة (غير وغير) التي يتقاطع عنوانها مع شعار مهرجان مدينة جدة الصيفي (جدة غير) تقنية الكولاج المركب من الكتابة على الجدران ورسائل الهاتف الجوال لكشف ما هو مستور خلف شعارات هذه المدينة التي تتكتم على مباذلها وفضائحها وتتباهى بساحلها ومهرجاناتها. العودة لأربعة صفر لا تحمل رواية (أربعة صفر) عنوانا على غلافها الأول كما هو معتاد في الكتب العربية وحمل غلافها الأخير العنوان في إلماحة من الكاتبة إلى أن العنوان إنما يأتي تتويجا لاكتمال الرؤية التي تختم الجدل الدائر بين شخوص الرواية حينما يتماهون بين الكائنات الحية وظلالها حينا وبينها وبين الأرقام الرياضية حينا آخر، وإذا كان الطفل الحامل لاسم (أربعة) يمثل الشخصية المحورية التي تشكل العمود الفقري للرواية فإن الشخصيات الأخرى والمتمثلة في (صفر) و(ولد المرآة) و(السيد المليون) تجسد التحولات التي تعرض للشخصية المحورية والمفاصل التي تحرك آليات السرد في الرواية، وقد أرجأت الكاتبة عنوان روايتها للغلاف الأخير لكي لا تفضي العنونة على الغلاف الأول إلى تكريس الحوارية والجدل بين طرفين في الرواية، وبهذا تحفظ لعملها الروائي أفقا مفتوحا بين مختلف الشخصيات إلى أن ينتهي إلى تكشف الرواية عن أنها في حقيقتها حوار بين الوجود المتمثل في الطفل الحامل لاسم (أربعة) والعدم المتبلور في شخصية (صفر) مجسدا العلاقة بينهما باعتبارها علاقة بين طاقتين متناقضتين يتركب منهما الوجود الإنساني في قوته وضعفه وسعادته وشقاه. وتعبر الرسائل التي يبعث بها الطفل (أربعة) إلى (السيد المليون) هاجس الكتابة ووظيفتها لا باعتبارها عملا فنيا إبداعيا وإنما باعتبارها وسيلة للتواصل مع كائن غامض بعيد عن مجال الرؤية يشكل على مستوى العمل الإبداعي القارئ النموذجي غير المنظور ويتبدى في الرواية متعاليا لا يرد على من يخاطبه ولا يتجاوب مع من يراسله رغم تمرئيه في كل ما هم محيط بالطفل الذي لا يفتأ يرسل له الرسالة تلو الرسالة، مؤكدا له مدى حاجته إليه وتطلعه لعونه ويسعى جاهدا أن يخبئ له الرسائل في كل مكان يتوقع وجوده فيه أو مروره به. تبدأ الرواية بالرسالة الأولى التي يبعث بها الطفل (أربعة) إلى السيد المليون حين يكتب له: (....أنت قوي وكبير جدا وتعرف كل شيء .. فعرفت أنني أحتاجك) (ص5) ثم تتوالى بعد ذلك الرسائل إلى (السيد المليون) إلى أن تتحول إلى ضرب من المناجاة والشكوى وطلب العون ومذيلة مرة باسم أربعة مجردا ومرة باسم الخائف أربعة ومرة ثالثة باسم الحائر أربعة ومرة رابعة باسم المتجمد أربعة ومرة خامسة باسم الضائع أربعة مستميلة بذلك كله السيد المليون لكي يجيب كاشفة في الوقت نفسه عن هشاشة الوجود الإنساني الذي تتهدده المخاطر في البيت والمدرسة والشارع والمتجر ويترصده الأقارب والأصدقاء والأغراب وعابرو السبيل. ولا تتوقف المخاطر عند المحيط الخارجي، إذ يبدو أن ثمة خطرا آخر أشد فتكا يشعر به الطفل أربعة يتكور داخله وينبثق من فراغ كامن في نفسه اشتكى منه في رسائله إلى السيد المليون الذي لا يجيب ملمحا على أن ذلك الشيء الخفي يشكل تهديدا لعلاقته به مستغربا كيف لا يجيب السيد المليون رغم معرفته بمدى خطورة ذلك الشيء وما يمكن أن يحدثه من زعزعة في ثقته به. من بين ثنايا النص تبرز شخصية ثالثة تحرك السرد وتتحرك وفق الرؤيا التي تقود لغة السرد، يظهر (ولد المرآة) على نحو مفاجئ حين يترقرق وجهه في ماء البئر وعلى صفحة المرآة، يعيد (ولد المرآة) المرآة العلاقة بين (أربعة) و(السيد المليون)، غير أنه يفعل ذلك بمحو أن يكون لهذا السيد المليون وجود في الخارج، يقود الطفل (أربعة) إلى كل الأماكن التي كان يتوهم أن يجد فيها (السيد المليون) ليؤكد له أن كل ما كان يعتقده وهم لا حقيقة له ولكي يبرهن لأربعة على ذلك ينوب عنه في كتابة الرسائل للسيد المليون. ولا نحتاج بعد ذلك أن نكتشف العمق الفلسفي الذي ترتكز عليه الرواية والنزعة الشاملة التي تجعل من شخصيات الرواية على ما بينهم من تناقض يتوزعون فيه بين القوة والضعف والخير والشر والهدى والضياع تحولات لشخصية واحدة فأربعة هو الصفر وهو ولد المرآة وهو السيد المليون في وقت واحد، والأزمة التي تحاول الرواية أن تتمثلها إنما تنشأ عن محاولة تمزيق هذه الكائنات إلى شخوص متناقضة تضل الطريق وهي تحاول أن تبحث عما يمكن أن يوحدها. العبور إلى روح السرد رواية (أربعة صفر) على بساطة لغتها وتبسيطها عبر، مخاوف الطفولة ومشاغلها، لإشكاليات فلسفية كبرى تتصل بعلاقة الإنسان بالقوى الخفية الكامنة فيه وعوامل الخير والشر المؤثرة في سلوكه، هذه الرواية ترسم حدود الآفاق التي تتحرك فيها أعمال رجاء عالم التالية فهي على الرغم ما اتسمت به من عمق ومقدرة على إدارة آليات السرد والمواءمة بين ظاهر يبدو اجتماعيا في ظاهره ويرتكز على بعد فلسفي تأويلي في باطنه تحافظ على نسق التفكير المشكل للرؤية كما تنتمي لنفس آليات السرد المبلورة لها. ومن شأن القراءة الناقدة لهذه الرواية أن تقدم مقترحا لحل جزء كبير من المتاهة التي يجد قراء رجاء عالم أنفسهم متورطين فيها حين تنفلت من بين أيديهم شخصيات السرد ومعالم المكان وحدود الزمان ويمسها التحول الذي تتناسخ فيه الكائنات وتتداخل الأزمنة وتتجاذب أطراف الأمكنة رغم تباعدها على نحو مفاجئ وأخاذ يصبح فيه الماضي حاضرا والمستقبل ماضيا وشرق الأرض غربا لها وتنتظم كائنات السرد حركة حية يتماهى فيها الشخوص على اختلاف أنواعهم وأجناسهم والبيئات التي ينتمون إليها. ثمة نهر جارف يظهر جليا حينا ومستترا حينا آخر يحرك العالم من حول رجاء كما يحرك العالم في رواياتها وهو النهر الذي تكشف عنه بوضوح مجموعتها القصصية الوحيدة التي سبقت عودتها القوية للرواية وجاءت تحت عنوان (نهر الحيوان) والحيوان في هذه المجموعة كالحيوان في بقية أعمالها لا يتصل بالحيوان بمفهوم النوع بقدر ما يتصل بالبنية اللغوية التي تجعل ما جاء على صيغة (فعلان) وصفا لكل ما يتسم بالحركة والاضطراب ورفض الاستسلام للسكون الذي يبدو مرادفا للموت، نهر الحيوان هو النهر الغامض الذي ينتظم الكائنات جميعها ويسمح بالتحول بين الكائنات الحية فتصبح معه المرأة حية تتلوى حينا وشجرة مثمرة حينا آخر وتتلبس بالعالم من حولها فتصبح القلعة كائنا حينا مسكونا بروح تلوب الأزمنة لتستقر في كل شيء. و(طريق الحرير) الذي جاء عنوانا لروايتها التي صدرت بعد مجموعة نهر الحيوان القصصية ليس سوى نهر آخر للحياة أو الحيوان يحرك الكائنات والبشر من أقاصي الأرض، والرواية في ظاهرها تسجيل موثق بالأسماء لهجرة جدي الكاتبة، جدها لأبيها العالم القادم من أقصى المغرب، وجدها لأمها محمد بيك القادم من وسط آسيا إلى مكةالمكرمة ويشكل التزاوج بين أبناء الجدين والحياة اليومية النسيج المكون للرواية التي تجمع بين أسماء أفراد الأسرة والأصدقاء والصديقات وأسماء كتاب ونقاد كالغذامي وعابد خزندار وعالي القرشي وكاتب هذه السطور، تستحضرهم الكاتبة لتحريك النص الممثل لسيرة حياة الكاتبة اليومية عبر علاقاتها الاجتماعية وصلاتها بالوسط الثقافي، ولا يشكل هذا المستوى من السرد غير ظاهر للرواية، إذ تمور سطورها بين ذلك كله بحياة شاملة تلتقي فيها كائنات تاريخية وأخرى أسطورية ويلعب (لوح الشطرنج) الذي يحمله الراحلون في تغريبتهم الطويلة دورا هاما في خلط الأمكنة والأزمة ويبدو مصطرعا ضخما للحياة التي لا تعترف بحواجز التاريخ ولا حدود الأمكنة وتتحدى الموت حين ينظم إلى لاعبي الشطرنج ذلك الميت الذي كانت تحمله امرأة التقت بها القافلة في طريقها والذي ذكرت الكاتبة أنهم لم يستطيعوا دفنه (لفرط حيويته)، ولذلك آثروا أن يحملوا جثمانه معهم حين يرتحلون وحين يتوقفون عن السير يستنهضونه من نعشه لكي يلاعبهم الشطرنج ويحدثهم عن الماضي القديم والمستقبل القادم في إشارة واضحة إلى أن الحياة لا تنتهي بالموت وأن ثمة طاقة كامنة وهرا عنيفا للحياة يوشك أن يكون ما تعتبره موتا مظهرا من مظاهر وآلية من آلياته التي يحقق من خلالها رحلة الإنسان في الأمكنة وترحله في الأزمنة وتنقله بين الأجناس والأنواع ومختلف الكائنات. في رواية (خاتم) التي تم النظر إليها على أنها تدوين لتاريخ حقبة من الصراع السياسي والاجتماعي في مكةالمكرمة إبان حكم الأشراف وتسجيل لجملة من العادات والتقاليد التي كانت سائدة في المجتمع المكي في تلك الحقبة، وقد منحت تلك النظرة هذه الرواية مكانة لم تحظ بها روايات رجاء الأخرى وذلك لما يتطلع إليه كثيرون ممن يبحثون عن عمل يدون مجهول حقبة ماضية من التاريخ ويوثق قيما وتقاليد آخذة في الزوال لما يطرأ على المجتمع من متغيرات تمس كل شيء فيه، وقد استثمرت الكاتبة عنف الأحداث التي دونتها روايتها لتكريس رؤيتها للحياة التي تتأبى على توزيع الكائنات إلى أجناس متباينة، إذ تظل الشخصية المحورية (خاتم) والتي تحمل الروية اسمها شخصية لا تستبين ملامحها فهي ذكر وأنثى في حىن واحد تتقلب في الجنسين بحسب زاوية النظرة إليها فخاتم يولد ولادة غامضة لا يعلم بكنه جنسه غير والديه اللذين يحتفظان بسر الجنس الذي ينتمي إليه ويتركانه يحيا حياة مزدوجة لا يستبين من جنسه إلا ما يمكن أن تشف عنه ملابسه وكأنما الذكورة والأنوثة رداء خارجي لا يكشف عن حقيقة أعظم منها تتمثل في الحياة بمعناها الواسع والشامل حين ينتظم الكائنات ويأخذهم في طريق الحرير أو يجرفهم في نهر الحيوان. وتدور رواية (حبى) في عالم يختلط فيه العالم السفلي بالعالم العلوي ويلتقي الجن بالأنس وتدور الصراعات على نحو يؤكد أن خلف ما نراه ظاهرا باطن لا نراه وفي رداء من نطمئن إلى معرفتهم أشخاص لا نعرفهم، ووراء التاريخ المعلوم تاريخ مجهول لا سبيل لنا على رصده غير الحدس والإيمان بأن هذه الروح الشاملة هي وحدها التي تحتضن الجميع بخيرهم وشرهم وبطرهم ودنسهم كذلك. التصنيف ومشكلة القراءة تلك هي رؤية رجاء عالم إلى العالم والحياة وهي الرؤية التي تحرك كائنات السرد في رواياتها وتشكل مفتاحا يمكن من خلاله تجاوز كثير من إشكاليات القراءة ومآزق تتبع شخصيات السرد وزمنه ومكانه ومأزق قراءة رجاء والحيرة في تصنيف ما تكتبه يعود إلى هذه الرؤية التي تبدو فيها أعمالها غير قابلة للتصنيف تحت ما استقر تصنيفه تحت عنوان الرواية بشروطها المعروفة، ولذلك يقترح باحثون الحديث عن نصوص رجاء مؤكدين أن للسرد شروطا لا تكاد تخضع لها أعمالها، وقد لا يكون مهما أن نصنف أعمال رجاء بقدر ما هو مهم أن نتفهم رؤيتها التي لا تبدو من خلالها رجاء روائية فحسب وإنما هي مفكرة مشغولة بأسئلة كونية كبرى تتعلق بالموت والحياة والتاريخ والمستقبل وضعف الوجود الإنساني وأسرار قوته.