روى أبو القاسم بن حبيب في كتابه عقلاء المجانين أن الحسن قال: أخبرنا أبو موسى عمران بن موسى بن الحصين قراءة عليه قال: حدثنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق المهرجان قال: حدثنا أبو علي سهل بن علي ببغداد في الدور قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن أخي الأصمعي قال: سمعت عمي يقول أخبرت أن الحجاج بن يوسف لما فرغ من أمر عبد الله بن الزبير وصلبه قدم المدينة فلقي شيخا خارجا من المدينة فلما رآه الحجاج قال له: يا شيخ من أهل المدينة أنت؟ قال: نعم. قال الحجاج: من أيهم أنت؟ قال: من بني فزارة. قال: كيف حال أهل المدينة؟ قال: شر حال. قال: ومم؟ قال: لما لحقهم من البلاء بقتل ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال الحجاج: من قتله؟ قال: الفاجر اللعين حجاج بن يوسف عليه لعائن الله من قليل المراقبة لله. فقال الحجاج وقد استشاط غضبا: وإنك ممن حزنه ذلك وأسخطه؟ قال الشيخ: إي وربي أسخطني ذلك أسخط الله الحجاج وأخزاه. فقال الحجاج: أو تعرف الحجاج إن رأيته؟ قال: إي والله إني به لعارف فلا عرفه الله خيرا ولا وقاه ضرا. فكشف الحجاج لثامه وقال: إنك لتعلم أيها الشيخ إذا سال دمك الساعة. فلما أيقن الشيخ بالهلاك تحامق وقال: هذا والله العجب أما والله يا حجاج لو كنت تعرفني ما قلت هذه المقالة أنا والله العباس بن أبي ثور أصرع في كل يوم خمس مرات. فقال الحجاج: انطلق فلا شفى الله الأبعد من جنونه ولا عافاه . حين تروى هذه القصة في بغداد فإنها بذلك لا تحدد المكان الذي تتم روايتها فيه فحسب بل الزمان كذلك، فروايتها وسلسلة رواتها تكشف عن أنها مما كان يحفل رواة العصر العباسي الأول به من أخبار العرب سواء ما هو مهم منها يتنزل منزلة التاريخ للأحداث والشخصيات ، أو ما هو مستطرف مما يتم التفكه بروايته في المجالس، غير أن القصة حين تدور حول أحد قادة وأمراء الدولة الأموية فإنه يمكن النظر إليها على أنها من باب ما كان يحرص رواة العصر العباسي الأول على تدوينه من أخبار وأحداث يمكن لها أن تكشف مقدار الظلم والبطش الذي كان يتصف به أمراء وقادة الدولة الأموية خاصة حين يتعلق الأمر بالحجاج الذي تحول إلى أنموذج للبطش والاستبداد وهو الأمر الذي يجعل من تلك القصة شهادة معاصرة على ما أرادت القصة أن تبرهن من خلالها على مقدار السخط الذي كان يشعر به الناس تجاه الحجاج وما كان يقوم به، وإذا كانت الأحداث الكبرى قد شهدت بسخط الخاصة ممثلين في القادة كمصعب بن الزبير وعبد الله بن الزبير ، والفقهاء كسعيد بن جبير فإن هذه القصة تكشف عن سخط يعم الناس جميعا فالقصة تحكي عن « شيخ خارج من المدينة» يتحدث عن «أهل المدينة» وكأنما هو بتنكيره وبتصديه للسؤال عن حال أهل المدينة يمثلهم جميعا ويكشف عن رأي عام في فترة حرجة تتمثل في الفترة الفاصلة بين مغادرة الحجاج لمكةالمكرمة ، بعد قتله الزبير وصلبه وتوجهه إلى المدينة التي كانت تتوجس ريبة مما يمكن أن يحل بها حين يصل إليها بعد أن ترامت إليها أخبار ما فعله في مكة. النظر إلى القصة باعتبارها شهادة حية معاصرة للزمن الذي تشهد عليه هو ما يفسر العناية بتوثيق روايتها من حيث تواتر سند الرواية وتحديد مكان حدوثها وكذلك المكان الذي رويت فيه ومعرفة رواتها بدءا من الأصمعي الذي حفظ للعربية الكثير من ثقافتها وانتهاء بأبي القاسم بن حبيب مؤلف الكتاب الذي وردت فيه القصة، وهو توثيق جرى العرف على الأخذ به عند رواية الحديث النبوي وقصص التاريخ وأخبار العرب ولم يكن لكل هذا التوثيق معنى لو كانت القصة مجرد حديث مستطرف يتم التفكه به في المجالس عن شيخ ادعى الجنون ليخرج من ورطة كاد أن يدفع حياته ثمنا لها. وكشف الحجاج لثامه بعد أن استمع إلى ما قاله ذلك الشيخ، وأغراه بأسئلته على الإفصاح برأيه فيه ،وتعريفه بما يشعر به الناس تجاهه يستدعي إلى الذاكرة وقفة مماثلة حين وقف على منبر الكوفة ملثما وقفة أغرى بها بعض الذين كانوا في المسجد للتعرض له بالأذى ثم أوقع بهم العقاب بعد ذلك ، واللثام الذي كان يغطي وجه الحجاج في كلا الموقفين هو أحد آليات السلطة حين تتخذ من السرية وسيلة لها كي تصل إلى ما يتم إخفاؤه عليها في العلن، كما أن من شأن اللثام أن يمنح السلطة وجودا شبحيا غامضا لا يستبعد بعده أن تكون كامنة حيث لا يتوقع كمونها حاضرة حيث يتوقع غيابها، فكل لثام يمكن له أن يفسر عن وجه متخف من أوجهها المتعددة. ويتزامن كشف الحجاج اللثام عن وجهه مع حجب الشيخ لعقله حين ادعى الجنون مما يمكن له أن يؤخذ على أنه علامة على عجز العقل عن استيعابه آليات عمل السلطة وتفضيله الانسحاب على مواجهتها مواجهة يدرك أنها سوف تنتهي به إلى الهلاك، وهو ما يمكننا من أن ننظر إلى الجنون على أنه أحد أوجه العقل المحتملة أو أنه هو اللثام المماثل لذلك اللثام الذي كان الحجاج يغطي به وجهه فإذا كان الحجاج قد غطى وجهه كي لا تتم معرفته فالشيخ بدوره غطى عقله كي لا تتم محاسبته. بين العقل والسلطة والجنون والحقيقة علاقات تشابك ، فإذا كان العقل يقتضي تجاهل الحقيقة تجنبا لفتك السلطة المطلقة والمتمثلة في سطوة الحجاج وجبروته في هذه القصة فإن الجنون وحده هو القادر على كشف الحقيقة والجهر بها دون أن يكون معرضا للوقوع تحت طائلة العقاب. لم يكن أمام ذلك الشيخ وقد شعر بدنو أجله على يد الحجاج جزاء له على ما أفصح عنه من كره للحجاج وذم له إلا أن يدعي الجنون، الذي من شأنه أن يسقط عنه تبعية ما قال ويدخله في قائمة من رفع القلم عنهم مثله في ذلك مثل الطفل الذي لا يحاسب على ما يفعل ،والنائم الذي لا يسأل عما يفرط فيه خلال نومه، كان الشيخ يتوارى خلف الجنون الذي لا ينجيه من مسؤولية ما تحدث به بل يحيل حديثه إلى أن يكون ضربا من الهذيان الذي لا يلقي إليه عاقل بالا، وهو ما راهن على أن الحجاج سوف يتقبله منه خروجا لكليهما من مأزق إن انتهى بقتل ذلك الشيخ فإنه لا ينتهي بتسجيل التاريخ موقفا لذلك الشيخ حين وقف في وجه الحجاج ليواجهه بحقيقته ورأي الناس فيه. ولم يكن يخفى على الحجاج أن الجنون الذي نسبه إلى نفسه ذلك الشيخ مجرد ادعاء أراد أن ينقذ نفسه به ،غير أن الحجاج آثر أن يتواطأ معه على تقبل ذلك الإدعاء فأن يتحدث الناس ويروي التاريخ أن مجنونا تعرض للحجاج بالذم ،خير للحجاج من أن يقال بأن شيخا امتلك جرأة استطاع أن يواجه الحجاج بحقيقته حتى وإن كانت حياة ذلك الشيخ هي ثمن تلك الجرأة. كان الحجاج محتاجا عند بدء ولايته على العراق أن يكون فاتكا ،فأمر بذبح من تعرض له بالذم والأذى على عتبة المسجد الذي كان يخطب فيه، وذلك كي يرسخ مهابته وخشيته في قلوب أناس لم يتعرفوا عليه بعد، غير أن جرأة الشيخ عليه فيما لو حاسبه عليها من شأنها أن تكشف عن أن ما حاول الحجاج ترسيخه من خوف منه ورهبة من بطشه - شاهدا كان أو غائبا - مسألة لم يكتب لها النجاح ما دام هذا الشيخ قد امتلك الشجاعة على مواجهته وهو في عز جبروته وأوج قوته بما واجهه به. لم يكن ذلك الشيخ ينقذ حياته من يد الحجاج فحسب حين ادعى الجنون، وإنما كان ينقذ هيبة الحجاج كذلك ولهذا لم يجد الحجاج مناصا من تقبل ما ادعاه ذلك الشيخ من الجنون. ويلعب الجنون دورا آخر في هذه القصة حين يجعل من كل ما قاله الشيخ مجرد هذيان مجنون لا يمكن لأحد أن يعتد به أو ينقله عنه ،كما أن من شأن الجنون أن يسقط عن حديث الشيخ أي مصداقية يمكن لها أن تجعل منه تعبيرا صادقا عن كرهه للحجاج أو نقلا أمينا عن رأي الناس فيه وسخطهم عليه، الجنون لا يفسر العلة الكامنة وراء كلام الشيخ بل يلغي ذلك الكلام من أساسه وكأنما هو لم يحدث أصلا ، فلا الحجاج تحدث إلى شيخ ولا استمع إلى رجل واجهه بالذم ما دام ذلك الشيخ مجرد مجنون ألقت به الصدفة في طريق الحجاج وحديثه مجرد هذيان مجنون كان يمكن أن يحل محله هذيان غيره. اكتفى الحجاج بانتساب الشيخ إلى الجنون أو نسبة الجنون إلى الشيخ فلم يقتله جزاء له على ما قاله ،مدركا أن في ذلك الانتساب وتلك النسبة ضربا آخر من القتل المعنوي له أشد فتكا وأبعد أثرا ،فإذا كان قتل ذلك الشيخ عقابا يكرس ما قاله ويعزز ما ذكره عن الحجاج وجبروته فإن الجنون قتل للحدث نفسه وإلغاء له وتأكيد على أن الهيبة التي رسخها الحجاج لنفسه في قلوب الناس لا يمكن أن يخلو منها قلب عاقل ، ولا يمكن أن يخرج عن سلطانها إلا رجل مجنون.