تتعدد الطروحات وتتنوع الآراء وتختلف الأفكار، وكلها تتسابق في تقديم حرصها على المجتمع ورغبتها في السير به إلى حيث التفاعل الفاعل، والحضور المؤثر، ولكن في حقيقتها لم تقدم إلا بريقا وهاجا وسرابا خادعا ما ينفك أن تظهر حقيقته وكأنها أوهى من خيوط العنكبوت، لا تحمي من الهجير ولا تقي من الأذى ولا تمنح الدنيا سلاما ولا تهب البشرية طمأنينة وحبا، مما جعل أجيالنا حائرين متسائلين: أي الطرق نسلك؟ لأن كل الدروب مليئة بالمتاهات وتحتاج إلى مزيد من الوقت، لا لكي يصلوا ونصل، بل لكي يبدأوا ونبدأ. ومجتمعنا يعد من أبرز المجتمعات العربية على الأقل التي جربت في العقود الماضية أنواعا شتى من الطروحات الأيدلوجية والمناهج الفكرية والمبشرات الحداثية فألفينا أنفسنا مع تتابع الأيام ومر الأعوام كمن شام برقا في سحاب جهام فأراق ماءه طمعا فيه فمات عطشا، إذ لم يذقنا هذا الخليط المكدر إلا مرارة التطارح وعلقم التنظير الذي لا يستجيب للواقع التطبيقي. بل لا أبالغ إذا قلت: إنه صنع من مجتمعنا عقولا يملؤها التقسيم والتقزيم بعد أن كانت تعدنا هذه الطروحات ونحن نصغي لها مصدقين متلهفين بفردوس يحقق كل الأماني ويمنحنا كل الطموحات. أما اليوم وفي هذه المرحلة المفصلية من تأريخنا وبعد أن انكشفت الأقنعة وتبدلت حمرة الخجل بصفرة الرعب والفزع في وجوه المنظرين وحراق البخور فأضحى من المحتم أن يأتي دور الصوت العاقل والعقل الرزين الذي يغار على القيم والسلوك ولا يغير عليهما، وهذا الصوت ينبغي أن يكون صوت المثقف الذي يستحضر الهوية ويجعلها منصة إطلاق لرؤاه وأفكاره دون أن يكون متمردا على ماضيه ولا سجينا له. إن التحولات المعاصرة التي تغيرت فيها المواقع وتبدلت الخطابات وتذبذبت الطروحات خلقت في وجهها السلبي هذا الخليط المكدر من الأزمات المتلاحقة والأفكار المشوهة، ولكن في وجهها الإيجابي أتاحت وأباحت للمثقف دورا كيما يقدم طرحا فاضلا واعيا يمده بسلوك سوي ويتوجه بتواضع شخصي ينطلق من منصات الثوابت ويحلق في فضاءات الصياغات الصحيحة للأجيال المتلهفة والحائر... نعم المثقف ولا أعني به من همه تصفيف العبارات وترتيب الكلمات ولا من يصارع للتشبث بكرسي يرى أنه هو القادر على بقائه مثقفا نخبويا ولكن المثقف الغيور على قيم المجتمع وسلوكيات أبنائه، فيضغط في اتجاه الخطأ رافضا وجوده، محاربا استمراره، مرغبا في السير في الاتجاه الصحيح مقاوما كل دعوى تنال من القيم الفاضلة أو تدعو للتمرد عليها، وهذا التميز الذي ينبغي أن يكون عليه مثقفونا، فهو الذي يسلم نفسية جيل حائر من التمزق والبعثرة، ويساهم في توحد المجتمع منهجا ومشاعر وتصورات وهو الذي يحمي بحضوره الواعي الفاعل شرائح وأطيافا من الشذوذ في الفكر والعلة في السلوك. إن المسؤولية على المثقف باتت مضاعفة اليوم بعد أن تهاوت كل الخطابات المؤثرة وخبت كثيرا النداءات الوعظية وفشلت الطروحات الانفعالية التي تزعمت القيادة والريادة زمنا حاجبة دور المثقف الحقيقي وليس المتوشح برداء الثقافة مصطلحا والمتبرئ منها سلوكا فهل سيستجيب هذا المثقف لقدرية القذف به في الصف الأول ويضطلع بدوره مصطحبا صحة العقل وسلامة النفس وسوية التفكير ومطرحا وساوس الكبرياء غارسا قيم الخير والحب والوفاء، أم أن داء النخبوية الوبيل سيعبث بجسم الثقافة النضر فيعود المثقفون أدراجهم إلى حيث كانوا يقفون على هامش الحياة يطربون لصوت الجنادب تصر في هشيم الحياة اليابس؟ وفقنا الله لكل خير. باحث أكاديمي [email protected]