توسطت الشمس كبد السماء، فدقت ساعة «عكاظ» معلنة رصد حراك الحج من باحات الفضاء، كان الموعد الواحدة ظهرا، المكان قاعدة عرفات في أقصى بقعة من مكةالمكرمة شرقا، هرولنا صوب أسراب من صقور قاعدة الملك فهد الجوية حيث كانوا يتأهبون في طوافات مروحية ذات طراز فريد «أمريكية الصنع 212» أشبه ما تكون بالفراشات. وفي مقر عمليات الانطلاق كانوا يتبادلون تهاني العيد، حيث وقف قائد مجموعة الطيارين العقيد فهد البقمي مرحبا بنا ونادى فورا بتجهيز الطائرة التي ستقلنا صوب السماء لرصد الأرض من علو ولتكون المشاعر المقدسة داخل زوم عدسة «عكاظ» نقلا للواقع كما هو دون رتوش. توجه صوب طائرة الرحلة طاقم الطيران وطلب منا العقيد البقمي الجلوس لدقائق مقدما لنا «حلوى وفاكهة»، وكأنما أراد أن يكسر كل ما بدواخلنا من خوف، وشرع قبل الإقلاع يلقي درسا سريعا في إجراءات السلامة الاحترازية عبر شريط فيديو وشاشات عرض فكان باسما هادئا واثقا من فريق عمله من الطيارين الماهرين الذين قضوا ساعات طيران طويلة. استوعبنا الدرس جيدا «عليكم ربط الحزام وخلع الشماغ وعدم الحركة إلا بأمر فني الطيران، ولا داعي للتوتر من عدم وجود أبواب في هذه الطائرة الأمر لن يكون مقلقا»، ثم ودعنا ملوحا بيده لنا من بوابة العمليات فتسارعت أقدامنا لنحث الخطى صوب طائرة الإقلاع واعتلينا قمرة الطائرة. «مرحبا بكم معنا في رحلة استطلاعية».. كانت تلك العبارة شارة البدء للإقلاع فذالكم صوت النقيب طيار سلمان القحطاني ومساعده النقيب طيار عبدالعزيز الفريدي لنخوض تجربة معانقة السماء، فنطلق حوارا إلكترونيا عبر التوصيلات الإلكترونية معهما ونحن في تصاعد صوب السماء، تربط الأحزمة وتنطلق الرحلة تدريجيا من ارتفاع 200 قدم يبدأ الحديث مع النقيب سلمان «أتشرف بالعمل في الحج أستطيع أن أقول إن هذا الموسم استثنائي بكل المعايير الآن 1:20 ظهرا ولا نرى الزحام المعهود مع أنه وقت الزوال، هذا لم يحدث من قبل ويستحق الفخر، هناك حسن إدارة للحج »، يتقاطع صوت القحطاني مع زميله على الأرض الذي انطلق في حديث معه بلغة الطيارين، ويلتقف زمام الحديث مساعد قائد الطائرة الفريدي: «هذه تجربة فريدة بالنسبة لي بالفعل تشعر بالمهابة العظيمة لهذا المكان والموقف الأعظم بين يدي الله سبحانه». يسهل الفريدي لرفيقه القحطاني مهماته في الجو فمساعد قائد الطائرة يضطلع بمهمات رئيسة أبرزها متابعة الدوائر الإلكترونية والمؤشرات التي أمامه، ويعيد له الاتصالات والنداءات التي قد تفوته بسبب ارتفاع صوت الطائرة في السماء. يميل النقيب القحطاني بالطائرة صوب الكعبة المشرفة وفي حديث عفوي مملوء بالشكر لله سبحانه: «نستشعر عظمة المسؤولية والأمانة الملقاة على عاتقي وزميلي، لذلك نحرص على نقل أبسط التفاصيل للجهات التي نعمل بالتنسيق معها فنحن نرصد أدق التفاصيل ونرى من فوق ما لا قد يراه الآخرون »، يعود صوت زميلهم على الأرض ليأخذ منه الجديد ويسلم لهم آخر ما لديه، والحديث لا يتوقف عن الانسيابية وجمال حركة الناس على الأرض متدثرين بالبياض والدعوات والأمنيات التي تصعد وكأنه ماء كتبوا عليه أمنياتهم. ارتفعت الطائرة فوق أربعة آلاف قدم، كان المنظر مهيبا لكنه جميلا، باحات الحرم ممتلئة بالحجاج، الطرقات بدت وكأنها عقد من اللؤلؤ المنثور، قليل من المركبات في ظل غياب الاختناقات، الشوارع شبه خالية وكأن الحج لم يلامس سقف الملايين الثلاثة. يتمنى النقيب القحطاني أن يهمس في أذني أكثر من ثلاثة ملايين حاج احتضنتهم المشاعر المقدسة أمس ويترجم بقوله: «أود أن أقول لهم عين الله ترعاكم وكم أغبطكم على هذا الموقف الروحاني». منظر منى من السماء كان مختلفا وهادئا على غير المعتاد لأن لا حج بلا تصريح قاد صوب انتظام السيارات والبشر على الأرض شكلوا لوحة فريدة، ألوانها بشر اجتمعوا من أقصى الأرض تلبية لنداء ربهم وإطارها رجال أمن بمختلف التخصصات اختاروا شرف الخدمة ونبل الرسالة. يحدد قائد الرحلة مسارنا فيها وارتفاعنا: «سننزل على ارتفاع 1500 قدم لتكون الرؤية أدق وسنميل يمنة ويسرة.. لا داعي للخوف»، كان جسر الجمرات يبدو كصحراء لا ترى فيها إلا أعدادا بسيطة من الناس يفصل بين كل منهم مسافة مترين أو تزيد (هكذا طبقت نظرية تفتيت الحشود البشرية على هذه المنشأة الضخمة). يميل النقيب طيار سلمان القحطاني بطوافته متجها إلى القاعدة الجوية بعد أن تلقى إشارة «OK» من مساعده وابتسامات تزف تهاني نجاح الرحلة وقبل أن نهبط يحلق بنا في مهمات عمله اليومية «هذه الرحلة الثانية لنا هذا اليوم، جدول أعمالنا يتطلب منا ما لا يقل عن 20 رحلة يومية موزعة بين كافة الزملاء لرصد الحج بكل ما فيه من هذه الارتفاعات المتنوعة ونقل صورة حية لمراكز القيادة والسيطرة في كل الجهات».