رحم الله غازي القصيبي فقد عاش مقاتلا ومات مقاتلا. كانت آخر معاركه أصعبها وأكثرها إيلاما له وكان قدره أن ينتقل من موقع صعب إلى موقع آخر أصعب منه. لم يتولى في حياته العملية الوزارية إلا وزارات مثقلة بالمشاكل و تحتاج إلى جراح ماهر يعالج أوجاعها، و تحمل أحيانا أعبائا أكبر من طاقته وواجه أوضاعا صعبة لم يكن من السهل مواجهتها منفردا في السنوات الأخيرة من حياته تولى وزارة العمل، وفي ظروف غاية في الصعوبة وفي ظل وضع مأساوي لسوق العمل السعودي ليس له مثيل في أي بلد في العالم تقريبا . في المملكة توجد بطالة لمئات آلاف الشباب والشابات وفي نفس الوقت يوجد أكثر من تسعة ملايين عامل وموظف وافد. هذه معادلة ووضع شاذ يحير العقل وكان تحديه الأخير أن يواجه هذه المشكلة المعقدة رغم أن دور وزارة العمل ليس التوظيف وخلق فرص العمل ولكن تنظيم و تقنين وإدارة ومراقبة هذا السوق إما (خلق فرص عمل) فهي مهمة مركبة تتحمل مسؤوليتها أجهزة حكومية متعددة وتتوج هذه المهمة في خلق اقتصاد وطني قوي وتنمية مستدامة تستوعب مخرجات التعليم . كان غازي القصيبي يسبح وسط أمواج متلاطمة من القوى المتصارعة في المجتمع: بين المصالح الإقتصادية التي تحتاج إلى عامل مؤهل وملتزم ورخيص وبين تجار التأشيرات الذين يستغلون النظام لفتح محلات ومؤسسات صغيرة غير منتجة ولكنها تعطيهم الحق في الحصول على تأشيرات يقومون إما ببيعها أو تأجيرها لعمال أجانب مقابل مبالغ مادية معلومة، هذا من جهة ومن جهة أخرى واجه القصيبي مئات الآلاف من الشباب والشابات الباحثون عن العمل والوظائف حتى لو لم تكن هذه الجموع في أحيان كثيرة تملك التأهيل الكافي أو القدرة على منافسة العامل الأجنبي الرخيص. واجه غازي القصيبي الخذلان من القطاع الخاص ومن النظام التعليمي العاجز، ومن السلوك الإجتماعي السلبي وبقي يحارب لوحده تقريبا وكانت الإدارات الحكومية المعنية بالتراخيص والسجلات تقذف في وجهه مئات الآلاف من التراخيص النظامية التي تعطي المواطن الحق في استقدام الآلاف من الطباخين والحلاقين والخبازين والجزارين والرعاة والمزارعين والحراس والخدم والسائقين التي وصلت إلى الملايين بعد سنوات قليلة وكان غير قادر على وقف منح هذه التأشيرات ( المؤيدة نظاميا ) من تلك الإدارات الحكومية. فهم القصيبي أساس مشكلة البطالة ولم نفهمها نحن، كان يصرخ وحيدا وخسر الكثير من الأشخاص لكنه بقي صامدا ثابتا في معركته وتحديه وارتضى أن يغامر و يضحي بمجده وشعبيته وتاريخه وعلاقاته مع أصحاب المصالح التجارية الكبرى و الصغرى دفاعاً عن الوطن ومستقبله، لقد إنحاز القصيبي إلى الوطن. كان يقول بداية مرضه إنه مصاب بقرحتين في المعدة: قرحة الاستقدام و قرحة البطالة. وقد واجه غازي القصيبي (الاستقداميون) الذين كانوا يقدمون المصلحة الخاصة على المصلحة الوطنية والذين لا يفهمون أن بناء الأمة والوطن يحتاج إلى بعض التضحيات والتي كانوا ومازالوا يرون أنهم غير معنيين بها. لم يفرق بين دور الحكومة ودور المواطن وكان يرى خطورة الوضع القائم على مستقبل الوطن إذا استمر هذا السيل الجارف من العمال في القدوم إلى المملكة وكان يتألم أن الغالبية العظمى من هذه التأشيرات هي غير منتجة ولاتضيف شيئا للاقتصاد الوطني ولايمكن أن تشغل يوما ما بشباب سعوديين. كان خائفا من الآثار السلبية لوجود ملايين البشر من جنسيات وبيئات إجتماعية مختلفة وكان يتغنى بالأيام التي كانت فيها الجريمة تكاد لاتعرف في مدننا وقرانا وكانت الدكاكين وصرافي العملة و محلات الذهب تغلق وقت الصلاة بقماش شفاف، ليس لمنع السرقة ولكن لمنع القطط و غيرها من دخول هذه الدككاين عندما يكون البائع يصلي في المسجد، ويومها لم تكن هناك كاميرات مراقبة و شركات حماية وشركات لنقل الأموال بسيارات مدرعة، كان يتذكر الأيام التي كانت ربات المنازل يقمن بتربية أبنائهن والعناية بالمنزل، وعندما كان وهو مدير عام السكة الحديدية لايوجد لديه خادمة بل كانت زوجته تقوم بتربية أبنائه وبكل أعمال المنزل. لم يكن هذا قبل مائة أو خمسين عاما بل كان قبل أقل من ثلاثين عاما أي منذ أقل من جيل. فهم غازي القصيبي أيضا مربط الفرس في قضية القضاء على البطالة فأحدث ثورة في التعليم التقني والمهني وأصبح هذا القطاع ينافس الجامعات والتعليم في عدد طلابه و مستوى خريجيه. كان يقف سدا منيعا ضد سيول الاستقدام الجارفة وكان سندا راسخا للتعليم التقني الذي تبنى به الأمم كان يؤمن أن الأمم تبنى بسواعد أبنائها وليس بسواعد العمالة المستوردة رغم وعيه الكامل لتعقيدات المشكلة وأدرك أهمية وضع الأسس والاستراتيجيات السليمة للقضاء على البطالة وكان يردد دائما أن وزارة العمل ليست وزارة الاستقدام. رحل القصيبي بعد أن ناضل في سبيل وطنه وأمته وبعد أن قدم كل ما يملكه من فكر وقيادة. رحل قبل إتمام المهمة ولكنه وضع لبنات أساسية في الطريق الطويل للقضاء على هذه المعضلة. رحم الله غازي القصيبي ووفق المهندس عادل فقيه ليواصل المهمة الصعبة وأدعوا الله سبحانه وتعالى أن يكون خير خلف لخير سلف. * صديق الراحل القصيبي عضو مجلس الشورى