تمرير الذاكرة على قارعة الشك من أكثر الممارسات تلبسا بالأنا الشعرية، وكأن القصيدة مجبولة على الجلد والمازوخية التي تزيد وطأة الحزن في قلب الكون. ما يميز تجربة الشاعر حسين آل دهيم في ديوانه الأول (هلوسة تعتمل في فمي) هو حالة الترك أو العصيان أو التجرد من مكتسباته ولزوميات الموروث التي تسكن الروح وتتوجع في ذات الشاعر بشكل نوبات حارة تتدفأ عبر الكتابة ثم تحترق بعد الكتابة. إذن، ما يستقر في مكنون ولا شعور (حسين آل دهيم) هو الإحساس بالشيء بعد تركه، والتلذذ بالكتابة بعد الكتابة، هذا التمرد على حميمة الأشياء يبدو أكثر تجليا عندما يلح في تكرار مفردات معينة مثل (قبر/ لغة/ قلب) وتمريرها عبر سياقات وصور عدة، إنه يمرر ويتجاوز، ويكتب لا ليمحو إنما ليتمرأى أمام صوته وصورته المعنونة في نصوص مختلفة ويفك الأطر عنها بإعادة الصورة بأسلوب آخر عبر قنواته اللغوية التي يؤنسها أكثر مما تحتمل أحيانا، ليبرر لنا إحالاته واستفراده بالقول وعدم اكتراثه بمخاطبة الذات وتجريمها ثم الاستكناه والتداعي الحر على باب القصيدة، إنه يفتح هلوساته لتشم الواقع الهلامي الذي يراه بأعين كثيرة، هو يضع (فوكس) لتبزغ الأشياء عارية لا تجد لبوسا لها سوى الكلمات، وما تقصر عنه الكلمات يظل على شماعة الأسئلة هبة للضياع والهلوسة. كما يقول: «أقايضهم الكلام بالشك وأتجاوزهم ... إن اللغة وحدها كانت مدعاة شكي» هكذا يفوق إحساسه وارتيابه كل من حوله، نراه يتشنج لحظة الكتابة ويتأزم لدرجة فقدان المجاملة، والمحايلة على المتلقي، هو لا يتحايل إلا على ذاته ولا يشك إلا في ذاته ولا يخرج من نصه عاريا بل مغمورا بالتأوه ومتوجا بالحنين مهما كان ساديا وصاعدا درج الفقد إلا أنه في منتهى الرهافة حد النسيان، ومحو أثره من ورقة بيضاء لا يراها طهورة ونقية، فهو يرى أن «الشعر نحيبنا الأوحد»، فهو لا يكترث بالصنعة التي أقرها بورخيس حيث تبدو إشكالية الكتابة النثرية ويتباين قلقها الوجودي والكوني كما يعبر بورخيس في إحدى محاضراته حول (لغز الشعر) إذ يقول «في كل مرة واجهت الصفحة البيضاء، عرفت أنه علي أن أعود من جديد إلى اكتشاف الأدب بنفسي، وأن الماضي لا ينفعني في شيء ولهذا لا يمكنني أن أقدم سوى ترددي وحيرتي، لي من العمر سبعون سنة وقد كرست الشطر الأكبر من حياتي للأدب وليس في استطاعتي أن أقدم إليكم سوى الشكوك». بهذا التناص لا أزعم أن شاعرنا آل دهيم مأخوذ بتجارب سابقة أو مندغم معها بنفس الحرارة والانصهار ولكن التخاطر معه في ذات القلق والحيرة هو ما يجعلني أقف مترددا وأنا حذر في فضح حالته وتقريب نبضاته البعيدة مني كي ألتمس الأضداد التي يعيشها ولا يكتب عنها بينما يكتب ما يهجس في خلده مع اختلافي مع وجهة نظر الناقد محمد الحرز في كتابه (القصيدة وتحولات مفهوم الكتابة)، حيث يرى أن النصوص الكبيرة يجب أن تعاش كما تكتب، ولكن التماهي مع حالات كبيرة تقفز حواجز الذات مرارا، وحالة التمرد والصدمة التي جعلت من حسين آل دهيم ساديا مع المرأة في وصوفه وتناوله لها وتعامله معها في النص، فهو صارم وجاد أكثر مما ينبغي لدرجة أنني أحسبه كائنا غير رومانسي في النص، ولكنه يبدو طفلا في بعض النصوص كما يتضح في نصين بالتحديد هما (إغواء المكان) ونص (أعود إليك محملا بك)، و مما جاء في نصه الأول: «على شفتيك تستيقظ ابتسامة تغوي النوارس على التحليق والتبرج» هذا الاستلام يجعلك مهووسا، ويدخلك في (هلوسة) حقيقة قد لا تفيق منها ومهما أفقت تود العودة إلى ذروة الانتشاء مرة أخرى، ولكن عندما تأتي لنصوص أخرى وتكتشف أنك أمام كيوبيد الذي كان محاربا وعنيفا ثم ارتد وهام على عقبيه عندما عشق وتعلق في امرأة افتتن بها وجن جنونه حتى أصبح شاعرا وملهما ورقيقا مع جلجامش وهو مايخفف خيبتهما عندما عجزا عن اكتشاف إكسير الخلود. وأشير له حيث يشير رولان بارت في كتابه (لذة النص): «سيظل ثمة دائما شيء من الحيرة ولن يكون التمييز منبعا لتصنيفات قاطعة» هنا يهيمن الإشكال على روح النص ومكمن اللذة فيه، إذ يرى رولان بارت أن القارئ هو مصدر اللذة وكل أذن لها ثقافة تاريخية وهنا استحالة الإنصات إلى نص دون غيره بلا لذة عندما يحتكم المتلقي إلى تاريخه القرائي ومجده الإنساني الذي يفرض مصيره ويبرر نواه كما يرى الدكتور حاتم الصكر في دراساته لقصيدة الحداثة التي عنونها (في غيبوبة الذكرى) وهو يدرس كما يتأمل وينقد كما يحس ويتوجع كما يستبصر عندما يقول «إن قارئ قصيدة النثر هو الطرف المطلوب وجوده بالقوة التي ظهرت فيها القصيدة وبالحساسية ذاتها». أيا كان المتلقي مفقودا، فالنص عار تماما، ويمكن لأي عين شاخصة أن تبصره من قريب أو بعيد، فالتحرر من الذاكرة هو الحل، ولكن لما تتناءى يا آل دهيم عن الأنثى؟ أهي نصك المفقود أم القارئ الذي تبحث عنه ويشتهيه كل كتاب قصيدة النثر؟!! في تساؤلاتي وجع آخر، ولتكن (هلوسة تعتمل) وسأظل موجوعا حينما أرى الأنثى مضطهدة في النص، كما يقول: «تكتوين في كنفي برهة مارقة»، ويقول «يا امرأة تمخضت عنها الأراضي البكر كلها»، ويقول «تتسلل المدن إلى داخلي»، ويقول «سأزرع نواياي لتتعثر بها الصبايا»، ويقول «وتهدمين بانتشاء مجلجل غشاء أنفاسي القريبة»، ويقول «ساذجة ككأس ماء بارد»، ويقول «مزاجية فرحة ناقمة مثل خطواتي الأولى إلى بوابة زنزانتي». هذا ليس عنفا، ألا يمكن أن تكون معشوقته ونساؤه ساديات ومتوحشات لدرجة أن مفردته الشعرية أصبحت ملطخة بالحنين الأحمر، ومشتعلة بتوت بري، وناقمة لشهوة جبارة لا تحتملها النسوة المرهفات؟!! إحساسه وغليانه الطافح وتكراره للحالة في كل نص لا يعني أنه منغلق أو كائن أعزل، بل هو رجل مسلح بالحنين، ومقاتل شرس لاحتلالِ جميع النساء، وقاهر لدرجة إما أن ينال الموت أو الاستسلام من المرأة التي تقترب منه وتشي له بالغواية حتى يجرحها ويجرجرها إلى وكر مظلم، ويغتال مرارة الوجد في داخلها كي لا تعشق غيره أو تفكر بأحد سواه، هذه الإحالة أراها أقرب من كونه كائنا غير رومانسي كما أسلفت، هو كائن يعشق بعنف ويتمادى في نبش قلوب العذارى كي لا تخونه امرأة ليس مجرد امرأة، بل من تسخر قلبها للعشق يجب أن تكون وفية ومخلصة حتى لو قدر لها الموت فلا بأس أن ترقد على (قبر)، وهذا أيضا ما يجعلنا نقف مليا عن تكراره لمفردة القبر في نصوص كثيرة لدرجة أصبحت من لزومياته الشعرية، كما يقول: «يعاود ... يصور قدمين لهما لغة خافتة كلغة التحديق إلى قبر هرم ثم يلصقهما بساقين وجسد تفوح منه رائحة الطلق جسد كأنه مقيد بأطراف حكايات لقوم يتكاذبون تحت شهوة عارية» هذه السوداوية المفرطة جعلت نصه حميما لي، عندما عاودت قراءة المجموعة الشعرية ثلاث مرات، في كل مرة أقترب من النصوص لدرجة أنني فقدت الإحساس بالعنف المفتعل، هو شاعر لا يوارب كثيرا، وانفعاله ينغرس في لغته، ورغم التحامه الشديد بالمدن ومغامراته الشاسعة على شوارع ومقاهي مدنه التي يرتادها ويزورها إلا أن صورة المدينة قاتمة وجارحة، فهو يصورها تارة بقوله: «أستعير المدن المارقة من كوة المفردات الفاترة»، وتارة أخرى يقول: «المدن تبصق فيك رهبة الاقتحام/عندما تهرول إلى أراضيها/يعتريك الشعور بالمضاجعة وأنت مكبل». أحسست بشيء غريب أمام صوره، وكأنك أمام سينما مثيرة كل مرة تفقد السيطرة على عينك، لأن المشاهد صادمة ومتمردة وصاخبة أيضا. يبدو أن حسين آل دهيم يقسو على من يحب كما كنت أردد دوما مقولتي «تقسو النوايا على أرواحنا»، فمن عشقه للمرأة إلى ولعه بالمدن إلى شغفه بالفضاءات الخالية أصبح هذا الحنين لأشيائه مؤرقا له، وهاجسا له، ومزعجا له أيضا، حتى فقد قدرته على التعبير المرهف كمن يهيم بقصيدة ما أو لوحة آسرة فيقول لصاحبها «عليك اللعنة» من باب الافتتان والدهشة وعدم القدرة على التعبير المباشر والشفاف، أصبحت المرأة المستهامة تقول لعشيقها «أكرهك» وتكرر هذه العبارة حد الشفقة والوجع لأنها مخنوقة ولم تطق صبرا، هكذا يكرر ويتمرد ويتبدى أمام قارئه وأمام نفسه، فلو نعتتك عشيقتك بالمعتوه أو الأحمق أو الساذج للوهلة الأولى ستكون مسعورا وغير متفهم للحالة التي تتمخض عنها ذات العشيقة، ولكن المتمرس في الحب يعي أن الحنين البالغ يتهشم أمام المفردات ويتكسر ويتلاشى أيضا، وكذلك الشاعر أمام المتلقي ربما يجد صعوبة في تمرير هواجسه وأفكاره، لاسيما أن القارئ عجول ومتسرع ولكن عندما نفك طلاسم الشاعر وندرك تلغيزه وروحه الغلابة حينها نقترب أكثر، ويكون النص أمامنا كالمرآة لأنفسنا غير آبهين بالحماقات ولكننا على حذر من أوصاف مشينة وقاسية قد تجرح ولكنها في النهاية بلسم شهي، وشقاوة محمودة ونعوت جمالها في غرابتها، ولهذا يرى بودليير «كل غامض جميل ولكنه مخيف». @شاعر وكاتب سعودي