صديقي وأخي، أراه الآن ما يزال ينثر الكلمات خيوطا يحيك بها أجمل الصفحات، ويطيرها في السماءات الواسعة للمدن القديمة، ويلملم أطراف القصص العابرة بكل نبض خفق في صدره الذي يليق بمعدنه النبيل. غادرنا عبدالله بن خميس، موسوعة الجزيرة، وأثير الأدب والشعر، وحفي التاريخ والجغرافيا، بعد أن زرع عمرا معرفيا حصدته أجيال لاحقة، تاركا أسفارا من كتابات وحضور، مخلفا وراءه أنات مزرعته الأثيرة عمورية. غادرنا صديقنا ومضى في درب سار عليه آخرون بين حدود الفصول وتخوم الأيام إلى حيث المستقر والوداعة الأبدية. غادرنا صديقنا الذي حمل غرس بذور النهضة واليقظة في مملكتنا، وقطع دروب الفيافي والصحارى، منقبا في كل شبر فيها عن لقى جديدة، باحثا عن كل ما يمكن أن تزهو به أرض ويسمو به شعب، واضعا نصب عينيه أن رفعة الأوطان حكر على ثقافتها، وأن مجد البلدان ليس سوى إرث معافى من كل خلل. عاش الراحل الكبير مع آلام وآمال أمتنا ردحا طويلا، مدافعا عنها بكل ما أوتي من صدق وقوة، منافحا عن ماضيها، مقتنعا بحاضرها، تواقا إلى مستقبلها المنشود والحدث جلل، تنحني أشجار النخيل تربت على ساكنيها حزنا وأسى، مودعة ما كان من حنين الزمن الغابر، فأنى للقلب أن يهدأ بعد رحيل أجمل الأصدقاء. إلى الموت يا أيها العصي المستحيل ترفق بنا، واله عنا قليلا، ففي حياتنا أسرار وحكايات جعلت من العمر نديا جميلا. يا أيها الجسور المختلس، يا من تعصف بحيواتنا انصرف، وخل ما بيننا جسرا من ود نرنو إليه سبيلا. ياموتا يا شمسا ثانية، يامن تربك مساقط القلوب، وتدمي اليدين بنباتات العذاب، وتمض العيون الكالحات بكرة وأصيلا. يامن تجعلنا نذرف مطر العيون ماء زلالا، ونستقطره حزنا جليلا. مدنا بالعزاء، ولو قليلا. ووفر لنا الكلمة، وجهز لنا معبرا صراطا للرحلة الأخيرة، وذد بنا عن اليتم، وأملك علينا مشاعرنا وعواطفنا بكل ما هو نبيل، وادع لنا أن نتسيد الآلام بعقولنا قبل قلوبنا، لنمعن فيك تأملا وتفكيرا. يا أيها النداء الأبدي يا من تطاول إلى عنانات السماء، ووصل ثبج البحار القصية، ضيق عبارتك، ووسع من رؤياك، فهاهي الأرض ليس سوى مستقر لأجساد فانية. وحول صداك الموجع فرحا، واستبدل دموع العجز فينا بفرح الخلد، فما نحن إلا بضع من بضاضات فانية. كان للإثنينية وقفة تقدير وشكر وتوثيق.. تكريما واحتفاء بالمنجز الحضاري الكبير، فسعدنا بأمسيته الباذخة بتاريخ 22/04/1410ه الموافق 20/11/1989م، وبعد أكثر من عشرين عاما أينع الغرس ليهدي «الإثنينية» وقفة تكريم واحتفاء أخرى مع ابنته الأستاذة أميمة الخميس، الروائية والكاتبة الصحفية المعروفة، فسعدنا بتكريمها بتاريخ 21/01/1432ه الموافق 27/12/2010م، وكأن الواقع المعاش أراد أن يثبت لنا أن للراحل المقيم امتداد على طريق الكلمة، وهو عطاء نابع من حبه لليمامة، إنها «الأم» التي أطلق اسمها مصغرا على ابنته التي لم تخذله قط، فحملت اللواء بيد مقتدرة، تأكيدا على دور المرأة في شراكتها التامة لشقيقها الرجل في ملحمة البناء والعمل الثقافي المشترك. رحم الله أستاذنا عبدالله بن خميس، وأحسن إليه بقدر ما قدم لوطنه وأمته، سائلين المولى عز وجل أن يتغمده بواسع رحماته، وأن يسكنه فسيح جنانه مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.. وأن يلهم آله وذويه ومحبيه الصبر وحسن العزاء.. إنا لله وإنا إليه راجعون.