«هم في نظر الأسرة مجانين، وفي نظر المجتمع من الطرف الآخر مشردون» صالت هذه العبارة وجالت في مخيلتي وأنا انتصب أمام مريض نفسي اتخذ من حي البلد وسط مدينة جدة وتحديدا على بعد أمتار من قلبها التجاري، مكانا له على مرأى المارة والمتسوقين، وقفزت إلى ذاكرتي عشرات الأسئلة حول واقع ومستقبل هذه الشريحة من أبناء الوطن؛ من يرعاهم، ومن يحيطهم بالعناية؟!. في هذا المكان الذي أحاطته أكوام من النفايات وبقايا الأوراق والمهملات من كل اتجاه، بدا راشد الحربي متوسدا ذراعا أنهكتها الحياة، متدثرا بملابس بالية تتحلق حولها أسراب من الذباب والحشرات، كان هذا المشهد مخيفا ومفزعا في آن، بدا راشد الحربي جثة هامدة، كانت خيطا أمسكناه لنلج منه إلى قضية وعالم المرضى النفسيين في المجتمع، نشرح فيه أسباب المشكلة، وتداعياتها، ونبحث صورها وانعكاساتها على شرائح المجتمع وعلى الصورة الذهنية للإنسان الذي يشهد أبناء وطنه يفترشون الأرض ويلتحفون السماء. فسي إلى آخر ومهما بدت قاسية وغليظة ومثيرة للشفقة أيضا إلا أنها تعكس واقع هؤلاء، يقول الكوبرا بعد أن وضعت في يده علبة لبن «لنا عالمنا الجميل، أرى الناس صغارا وهم يرونني صغيرا ليتهم يفهمون طموحي ورغبتي». سألته فيم تحلم، فأجاب «أن تختفي السيارات من الشوارع، بذلت جهدا كبيرا في تنظيم حركة السير هنا في شارع الذهب، ولم أنجح، ليت الناس يمشون على أقدامهم ويوفرون مبالغ مالية ويخلصون رأسي من الدوخة، عندما أشاهد السيارة أحس أنها ستداهمني وتدهسني وأشعر بالخوف». أين أسرتك كان هذا السؤال مجلجلا وقويا أيقظ قواه، كان وقتذاك متوسدا ذراعه وعندما سألته أين أسرتك أجاب ضاحكا «ماتوا جميعا، لا أعرفهم ولا أعرف أين هم، ليس لي أب ولا أم و لا أعرف كيف أتيت إلى هذا المكان، تركني وغادر المكان بعد أن قذف قارورة اللبن أرضا وهو يصدح «يالكوبرا.. الله معاك يالكوبرا.. قلبي معاك يالكوبرا». تحركت إلى عبده صالح، وهو عامل يقف إلى جوار كوبري الميناء حيث يسكن الكوبرا، فأجاب «هذا حاله منذ نحو عامين، يتحول فجأة إلى وحش، وتمر أيام وأنت تراه جثة هامدة أقرب إلى الموت من الحياة». سألت عبده ألا يتفقده أحد فجاءت الإجابة «مع كل أسف لا أحد يزوره غير القطط التي يحتضنها بجسده النحيل، ويحاول أن يمارس معها توأمة حب لا تنقطع، أشاهده دوما، تترك له وجبته من الدجاج والأرز، ومن اللحم ومن الخبز والماء لتتجمع حوله وهو ينظر لها باهتمام بالغ وكأنها جزء من عالمه أو من أسرته، يا له من رجل غريب». في مكان غير بعيد من هذا الجسر الممتد من شرقي جدة إلى جنوبيها، تشاهد هائمين يتحلقون خلف أعمدة الجسر، تراهم صامتين البعض يعتقد أنهم من مدمني المخدرات، والبعض الآخر يعتقد أنهم مجانين، وبين الإدمان والجنون خيط رفيع لا يستطيع التقاطه غير وزارة الصحة سألت الناطق الإعلامي الدكتور خالد مرغلاني عن المسؤولية في رعاية هؤلاء المشردين، فأجاب «نحن وزارة للرعاية الصحية وتقديم العلاج في كل مراحل الحياة، أما مسألة إسكان هؤلاء وتوفير المأوى فأعتقد أنها من مسؤولية مؤسسات حكومية أخرى، لدينا مرضى في مستشفى الصحة النفسية في الرياض والطائف وجدة مضى لهم أكثر من عشرة أعوام دون أن يسأل عنهم أحد، نحن نعاني من نظرة المجتمع وسلبية بعض الأسر في رعاية أبنائهم الذين اجتازوا مرحلة العلاج النفسي وأصبحوا أكثر قدرة على التعايش مع المجتمع». وعن خططهم المستقبلية لتقديم العلاج النفسي للمرضى، قال الناطق الرسمي للوزارة إن الصحة تعمل حاليا على إنشاء 14 مستشفى للصحة النفسية ومعالجة الإدمان من أجل استيعاب نسبة كبيرة من المرضى ومعالجتهم. في منزلنا مجنون مشكلة المرض النفسي في بداية الأمر قد لا تكون مرضا عضويا فهي نتاج ممارسات سلوكية ولفظية تزرع في الشخص منذ أن يكون طفلا، خلف الأسوار المغلقة وتحديدا لدى الأسر التي مستواها التعليمي أقل من الجامعي تبرز صور عدة للقمع الاجتماعي الذي يقود في النهاية إلى ما يشبه الجنون ويندرج بالطبع تحت مسمى المرض النفسي، يقول الدكتور محمد الزهراني (أخصائي نفسي): المؤسف أن بعض الأسر تمطر أبناءها صغار السن بعبارات قاسية بغرض التأديب من بين هذه العبارات مع الأسف الشديد مصطلح «أنت مجنون» كوصف لحالة الحركة الزائدة لدى الطفل، حيث يحرص الآباء وقبلهم الأمهات إلى نعت الطفل بالجنون كنوع من العقاب الذي يستهدف لجم حركته الزائدة والحد من عنف الطفل تجاه أشقائه. ويرى الزهراني أن هذه الكلمات ترسخ في مخيلة الطفل وتسبب له عقدا، وقد تستدعيها الذاكرة عندما يكبر الطفل ويمر بمراحل قاسية في حياته، وبالتالي تجده سريع اللجوء إلى العيادة النفسية؛ بحثا عن الدواء من أمور قد تكون بسيطة ومن السهل تماما السيطرة عليها. ويطالب الأخصائي النفسي بضرورة الحرص والتقليل من استخدام هذه العبارات تجاه البنات والأبناء، فالإحصائيات في هذا الجانب غائبة غير أن على الأمهات والآباء استخدام أنواع من العقاب الذي يؤدي في النهاية إلى مرض نفسي، فالضرب المبرح للأطفال بوابة تقود إلى المرض النفسي، كما أن استدعاء الصور المحزنة والسماح للأطفال بمشاهدة أفلام عنف وجريمة وحتى أفلام حزن تترك بصمة واضحة على ذاكرة ومخيلة الطفل وتقوده إلى المرض النفسي الذي هو درجات تبدأ من الوسوسة وتنتهي بمستشفيات الأمراض العقلية حيث الإقامة الدائمة والإجبارية للمرضى النفسيين. تعريف المرض النفسي المرض النفسي له أشكال وصور عدة منها اختلالات نفسية ظاهرة خاصة تضم اختلالات الشخصية؛ مثل (الشعور بالإحباط، الاضطرابات، الكآبة و...) وحالت التوتر النفسي؛ ومنها (الشعور بالضياع، دهان الاسترخاء الفكري، الاسترخاء الحركي الوظيفي، وفي حالاتها المتأزمة التخيل والهديان) أو خليط من هذه الحالات الناجمة عن أسباب عضوية أو التسمم بمواد خاصة. وتقسم الاختلالات النفسية في الطب النفسي حسب هذا التعريف إلى الاختلالات العصبية والاختلالات النفسية الوظيفية. بعض الدراسات التي أجريت داخل المملكة وخارجها أكدت أن 50 في المائة من البالغين يأتون بشكوى لأمراض لها علاقة بالعقل وكذلك 25 في المائة من الأطفال لديهم مشاكل سلوكية، كما لوحظ أن 25 بالمائة من المواطنين لديهم مشكلات اجتماعية، فيما أشارت دراسة عرضها مكتب الجمعية السعودية لطب الأسرة والمجتمع في المنطقة الشرقية أجريت لطالبات المدارس الثانوية في إحدى مدن المملكة اتضح من خلالها أن 16 بالمائة منهن لديهن مشاكل نفسية وعقلية، كما أجريت دراسة في السعودية مؤخرا وجدت أن 40 في المائة من المواطنين كبار السن 60 سنة فما فوق لديهم اكتئاب ونسبة النساء أكثر من الرجال .. 400 ألف مريض وفي وقت تشير فيه الإحصائيات إلى وجود نحو 450 مليون مريض نفسي في العالم، لا تملك وزارة الصحة في المملكة أي أرقام عن أعداد المرضى النفسيين ولا حتى عن شرائحهم ومتوسطات أعمارهم، غير أن تقرير ناقشته اللجنة الصحية في مجلس الشورى في المملكة، أشار إلى أن 400 ألف إنسان داخل المملكة راجعوا العيادات النفسية خلال عام 1010 ولم يفصح التقرير عن جنسيات المراجعين ولا حتى أعمارهم، وهنا يؤكد الناطق الصحي في وزارة الصحة الدكتور خالد مرغلاني أنه لا توجد إحصائيات رسمية غير أن الوزارة تدرك تماما أن المرضى النفسيين موجودون وهناك مستشفيات مشرعة الأبواب وبكامل التجهيزات لاستقبالهم، وزاد «يوجد مشروع نظام يدرس في دوائر القرار للمرضى النفسيين، حيث تعالج مواد النظام في مجملها إجراءات الرعاية للمرضى النفسيين وتعزيز الخدمات الصحية النفسية والمساهمة في دعم متطلباتها على المستوى الوطني من خلال مجلس للمراقبة العامة ومجلس للمراقبة المحلية حدد مشروع النظام مكوناتهما واختصاصاتهما والتزاماتهما، إلى جانب مواد تعنى بالدخول الاختياري والإسعاف وجوانب الوقاية والرعاية والتأهيل». مشروع نظام الرعاية الصحية للمرضى النفسيين: إفساح المجال للرقاة وتطويق لسرية المعلومات يهدف النظام الذي يناقش في مجلس الشورى تمهيدا لإحالته إلى هيئة الخبراء في مجلس الوزراء إلى تنظيم الرعاية الصحية والطبية اللازمة للمرضى النفسيين، وحماية حقوقهم وكرامتهم، وإيضاح كيفية معاملة المرضى النفسيين وعلاجهم في المنشآت العلاجية النفسية، وحماية أسرهم، وتعزيز الصحة النفسية والوقاية من الاضطرابات النفسية في المجتمع، ومنح مشروع النظام للمريض النفسي حق تلقي العناية الواجبة والحصول على العلاج بحسب المعايير العالمية المتعارف عليها طبيا، واحترام حقوقه الفردية في محيط صحي وإنساني يصون كرامته ويفي باحتياجاته الطبية، ويمكنه من تأدية تكاليفه الشرعية، وإعلامه بالتشخيص وسير الخطة العلاجية قبل البدء بالعلاج، وعند الحاجة إلى إدخاله في منشأة صحية يعلم المريض أو وليه أسباب ذلك. ويحق للمريض النفسي -وفق مشروع النظام- بعد التنسيق مع الطبيب المعالج أن يستعين بأحد الرقاة الشرعيين إذا رأى المريض أو ذووه ذلك، على أن تكون الرقية وفق ما جاء في الكتاب والسنة دون تجاوز ذلك بأي فعل، وشدد النظام على سرية معلومات المريض وعدم البوح بها أو الإفصاح عنها، كما حدد شروطا للدخول الإلزامي للمنشأة الصحية ومدته وشروطا للدخول الإسعاف وإجراءاته.