«لا تخونوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا» من وصية الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأسامة بن زيد رضي الله عنه قائد الجيش الإسلامي الذي ولاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل وفاته بقليل لقتال الروم الذين يهددون المسلمين. هذه الوصية هي خير تعبير عن السمو والاحترام ليس إزاء الإنسان (على وجه الإطلاق) بل إزاء الحيوان والنبات والأشياء المادية الأخرى ، وهي تمثل الجوهر الحقيق للموقف الديني والأخلاقي للإسلام قبل أن يدخل في متاهات الأدلجة والتسويغ والاجتزاء لبعض آيات القرآن الكريم والسيرة النبوية، وذلك من منطلق الجهل أو التجاهل المتعمد لأسباب النزول وتحديد النازلة والحدث ضمن سياقاتها وظروفها التاريخية المتعينة . هذا التزييف اللاحق حدث على يد فقهاء السلاطين، وبعض المتشددين ، من ذوي المصالح والاستهدافات الخاصة . استحضرتني تلك الحادثة التاريخية وأنا أرقب وأسمع بحزن وأسى جريمة القتل المروعة التي ارتكبتها مجموعة سلفية متطرفة تطلق على نفسها «سرية الصحابي الهمام محمد بن مسلمة» والتي ذهب ضحيتها المتضامن مع الشعب الفلسطيني ، الناشط الحقوقي والصحفي الإيطالي المختطف في غزة فيكتور أريغوني الذي وجد مشنوقا في منزل مهجور شمالي القطاع بعد عدة ساعات على اختطافه . لم أستطع أن أستوعب كيف يستطيع إنسان أو مجموعة تدعي أنها إسلامية ، أو جهادية «سلفية» وتزعم أنها تحارب إسرائيل وفي الوقت نفسه تمارس القتل بدماء باردة ضد مناضل أممي، هجر العيش الرغيد في وطنه، وترك عائلته وراءه على بعد آلاف الكيلومترات، مضحيا بحياته من أجل خدمة الشعب الفلسطيني ، ومواجهة عدوانية إسرائيل. ويذكر أن المغدور مواطن إيطالي وصل غزة عبر سفن كسر الحصار قبل نحو 3 سنوات، وغادرها عدة مرات لكنة أقام فيها بشكل شبه دائم، كما شارك في المسيرات المناهضة للمناطق العازلة، خاصة في بيت حانون. ولم يكتف فيكتور أريغوني بموقفه التضامني مع سكان غزة في أعقاب هجوم إسرائيل البربري على القطاع في نهاية عام 2008 معرضا حياته للخطر، حيث أصيب بجروح جراء شظية ، بل إنه دأب على فضح وتعرية جرائم إسرائيل البشعة في قطاع غزة أمام العالم بأسره، عبر كتابته ومقالاته ومشاهداته وتقاريره المصورة في القنوات الإيطالية والعالمية. لن أنسى أبدا صورته الإنسانية المؤثرة وهو منكبا على تحميل وتفريغ صناديق الدواء والغذاء للفلسطينيين ، وفي الصورة بدا متشحا الكوفية الفلسطينية ، وعلى ذراعه وشم كلمة مقاومة . هذا المشهد الصادق للمناضل الأممي والذي يشع نبلا وشهامة وتضحية ونكران ذات، والمتجاوز بناء على خلفيته اليسارية والفكرية المعروفة ، ونزعته الإنسانية ، لكل الاختلافات والتباينات العرقية والدينية والثقافية . فيكتور أريغوني هو أحد رفاق درب الأمريكيةالشابة راشيل كوري التي قتلتها الدبابات الإسرائيلية في 16 آذار (مارس) 2003، أثناء تصديها البلدوزرات الإسرائيلية التي كانت تقوض منازل الفلسطينيين، وتقتلع أشجارهم وتجرف مزارعهم . رغم خلفيته النضالية المعروفة والمعادية للصهيونية والتوسع والاحتلال الإسرائيلي ، ودوره التضامني البارز مع نضال وحقوق الشعب الفلسطيني غير إن ذلك لم يشفع له ، حيث قامت مجموعة فلسطينية متطرفة باختطافه، مهددة بإعدامه ما لم تطلق حركة (حماس) زعيمها الشيخ هشام السعيدني المعتقل لديها منذ الشهر الماضي وجميع معتقلي الجماعة. وتقول مصادر أمنية فلسطينية إن التنظيمات السلفية الجهادية المسلحة في قطاع غزة، تتبنى أفكارا مشابهة لأفكار تنظيم القاعدة. ومن أبرز الجماعات السلفية في القطاع جند أنصار الله وجيش الإسلام والتوحيد والجهاد إلى جانب جيش الأمة وأنصار السنة. في تسجيل مصور بثه خاطفوه في موقع يوتيوب على الإنترنت ظهر أريغوني معصوب العينين ودماء حول عينه اليمنى ويد تجذب رأسه إلى أعلى ليواجه آلة التصوير. وقال نص مكتوب رافق التسجيل المصور إن الرهينة الإيطالي «ما دخل ديارنا إلا لإفساد العباد والبلاد ومن ورائه دويلة الكفر إيطاليا». وقد نفذت الجماعة جريمتها النكراء بالفعل دون وازع من دين أو ذرة ضمير أو شرف، حيث نجحت تلك العصابة الإجرامية في تحقيق ما فشلت إسرائيل في تحقيقه من تصفية وإسكات هذا الصوت القوي و الجهور بالحق الفلسطيني، رغم تعرضه للأذى والاعتقال من أجهزتها الأمنية في السابق، بل وكاد يفقد حياته إبان عدوانها الأخير على القطاع . لقد خرجت غزة ، أناسها البسطاء ، ونخبها السياسية والاجتماعية والثقافية في موكب مهيب وحزين ، وفي مشهد اختلطت فيه دموع النساء والرجال والأطفال الفلسطينيين، كوقفة وفاء ووداع لفيكتور أريغوني باعتباره أحد أبنائها المجاهدين البررة . عائلته بدورها رفضت بشدة نقله عبر الممرات الإسرائيلية، وأصرت اتساقا مع موقف الراحل على نقله عبر ممر رفح الحدودي مع مصر. كما ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن ماريا إيلينا دليا وهي صديقة لفيتوريو أن مظاهرات استنكار ستخرج في ميلانو وتورينتو وروما وجنوى، وستقرأ في تورينتو مقاطع من كتابه «غزة.. كن إنسانيا». وأضافت أننا نريد أن يبقى الاهتمام منصبا على القضية التي دافع عنها فيتوريو مثل الحقوق الإنسانية للفلسطينيين، وبأنه «سنواصل العمل على نشر رسالته». فلسطينيا، ورغم الانقسام الحاد ، أجمعت الفصائل والقوى الفلسطينية بما في ذلك السلطة الفلسطينية وحركة حماس على إدانة جريمة الاختطاف والقتل ، كما اعتبر بيان رابطة علماء المسلمين في قطاع غزة أن قتل المتضامن أمر مناف للشريعة الإسلامية. وأضافت «فمن فعل ذلك فإنه مجرم معتد على دينه ويسيء إلى المسلمين ويعطي صورة ملوثة ومشوهة عن الإسلام». غير أن بيانا لحركة التوحيد والجهاد بغزة قال إن الجريمة كانت نتيجة لقمع حماس للسلفيين بالقطاع. وأوضحت الجماعة أنها بينما تؤكد أنها لم تقم بأي دور في مقتل أريغوني فإنها «تشدد على أن ما جرى كان نتيجة طبيعية للسياسة القمعية لحماس ضد السلفيين». من جهته أكد الدكتور ذو الفقار سويرجو مدير إذاعة صوت الشعب بغزة أن المخطوف هو «فيتوريو اريجوني» المعروف باسم «فيكتور» وهو من اليساريين الإيطاليين المعروفين وله علاقات وثيقة مع قوى وشخصيات يسارية . وقال إن «فيكتور» رفض الخروج من غزة أثناء الحرب الإسرائيلية على غزة وعمل مع الأطقم الطبية مشيرا إلى أنه يرسم على معصمه شعار «حنظلة» وشارك في الحرب اللبنانية مع قوات الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية ضد الكتائب. بدورها القوى الداعمة والمؤيدة لإسرائيل استغلت مقتل أريغوري في غزة ومقتل جوليانو خميس في جنين قبل أسبوع لتشكك بما أعلنته مؤسسات دولية وأوروبية قبل أيام حول جاهزية وقدرة الفلسطينيين الآن على تشكيل وإدارة دولتهم المستقلة. آخر نشاطات فيكتور كان مساعدة أسرة ناصر أبو سعيد، الذي استشهدت زوجته بقصف إسرائيلي في وقت سابق من أجل توفير دعم لبناء بيت للأسرة وتوفير قيمة العلاج لعدد من أفرادها. لا يمكن عزل جريمة قتل فيكتور عن البيئة الدينية والاجتماعية المتشددة التي تشكلت في محاضنها تلك التنظيمات المتطرفة، والتي عملت حركة حماس على ترسيخها منذ سيطرتها بالقوة على قطاع غزة في عام 2006 ، وذلك عبر حملات ترويعية طالت الحقوق المدنية والشخصية لمجتمع غزة ، وبحجج وذرائع مختلفة، ومن بينها منع الاختلاط وخصوصا في الشواطئ ، وفرض الحجاب بالقوة، وإغلاق المطاعم التي تنظم حفلات موسيقية، وغيرها . خطر الإرهاب (في وقتنا الراهن) وديناميكيته ، واتساعه ، وخطورة أساليبه وممارساته ، وشبكة مكوناته المحلية والإقليمية والدولية ، يفوق في خطورته، الكثير من الكوارث الوطنية ، التي غالبا ما تكون مدعاة للجميع للالتفاف والوحدة إزاء المخاطر المحدقة ، في حيت يؤد استمرار الإرهاب الذي نواجهه (الذي يتناسل باستمرار) ونجاح مخططاته وممارساته التدميرية الجهنمية التي لا تحدها قيم وطنية ، أو مبادئ إنسانية ودينية وأخلاقية ، أو تلجمها قواعد وقوانين شرعية ودولية ، إلى الضعف والانقسام والتشظي والتآكل في داخل وعي وجسد المجتمعات المبتلاة به إذا لم تمتلك القدرة على احتوائه والإرادة الصلبة للتصدي له . المطلوب الآن وعلى نحو ملح عدم السلبية والوقوف موقف المتفرج، وحصر المواجهة مع الإرهاب في الجانب والشق الأمني فقط . يجب أن تتولد وتترسخ القناعة بأنها معركة وواجب وطني شامل يخص الجميع، مما يتطلب استنهاض كل طاقات المجتمع ومؤسساته المدنية المستقلة، وقواه الحية، من رجال دين معتدلين، ومثقفين، ومفكرين، ومبدعين، ومتخصصين في العلوم الشرعية، والاجتماعية والسياسية، والاقتصادية، والنفسية، من أجل فهم وتحليل وتجلية ظاهرة الإرهاب وجذوره وأبعاده المختلفة، والتعامل مع محاضنه الفكرية ، والاجتماعية، وتفكيك خطابه التكفيري الذي يستند إليه . وهو ما يستدعي مراجعة الأضرار الجسيمة الناجمة من احتكار جماعة محددة لخطاب ديني وفكري واجتماعي متزمت ومتشدد، سعى ونجح (ضمن ملابسات معروفة) إلى حد كبير على امتداد العقود الماضية، في تكريس هيمنته واختطافه لشرائح واسعة من المجتمع ، وخصوصا صغار السن وحديثي التجربة ، عبر غسيل الدماغ، والشحن الفكري والعاطفي بشعارات ومقولات ، وفتيا ، تطوع وتوظف بعض ما جاء في الكتاب والسنة ، وفقا لتفسيراتها وتأويلاتها الخاصة ، وتوجهاتها ومصالحها واستهدافاتها المعلنة أو الخفية ، ودون أي اعتبار إلى النتائج المدمرة لنهجها العدمي . هذه المواجهة الوطنية الشاملة ، تستدعي العمل على تجفيف منابع ومحاضن الإرهاب ، وفي أوجهه وأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية ، وبالتالي وضع الفأس عند الجذر وعدم الاكتفاء بجز الأغصان الظاهرة (أمنيا). للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 147 مسافة ثم الرسالة