أصعب أنواع الكتابة، الكتابة عن إنسان تزدحم ذاكرتك بالحكايات معه، فلا تعرف من أين تبدأ الكتابة: هل تكتب عن العمدة محمد صادق دياب الذي كنت تتسكع معه في سيارته، فيأخذك للحارات القديمة في جدة، يحتضن كل البسطاء الجالسين على «المركاز» بحب، فتتعلم منه ما الذي يعنيه تواضع المثقف، إذ تجد أهل الأحياء القديمة يلوحون له بأياديهم وتنادي عليه قلوبهم: «تفضل فنجان شاي يا عمدة» ؟ أم تكتب عن المثقف «أبو غنوة» الذي تأتيه الدعوات من البيوت الفارهة، يدخلها شامخا ويخرج شامخا، لأنه عود نفسه على الاكتفاء، فيعلمك دون أن يمارس أستاذية عليك أن الإنسان يمكن له أن يعيش برغيف، لكنه إن تسول مرة ستظهر له حدبة تجعل رأسه محنيا إلى الأبد ؟ أم أكتب عن ذاك النقي الذي همس «لأم غنوة» في أذنها وهي ذاهبة لإجراء عملية في القلب، فمنحها كل الأمل، لتعود إلى رفيق دربها ؟. ذات يوم كنا سويا، وكان المشهد قبيحا، أو هكذا بدا لي الأمر، شعر بتذمري وحنقي وغضبي على كل ذلك القبح، فأشار النقي محمد بيده الحانية إلى جانب من المشهد «لم أره» قائلا للشاب الذي كنته: أنظر لهذا الجانب. وكأنه يريد أن يقول: لا يوجد قبح مطلق ولا جمال مطلق، لا شيء كامل، لهذا فتش دائما عن جمال الأشياء، وتعلم من هذا الجمال، وربما.. ربما في يوم ما إن أخذ الإنسان كل جمال الأشياء يصبح «الإنسان الكامل» ، وكان نقيا. اليوم مات النقي «أبو غنوة» ولن يتسنى لي اكتشاف الأشياء حين يكون المشهد قبيحا، لأنه لن يشير بيده الحانية للجانب المضيء إذ لا ترى أعيننا إلا الظلام. مات النقي بهدوء.. مات سريعا، حتى في موته لم يتخل عن عادته، فهو لا يحب أن يمس الحزن قلوب من حوله، لهذا ولا مرة بث أحزانه لأحد، فقط كان يحكي للجميع حكاية الأمل والفرح، وأن الغد أجمل. مات النقي ولم يعرف أحد أي حزن كان يسكنه، وحدها «الكعبة المشرفة» كانت تعرف أحزان النقي، لأنه تعود أن يمضي هناك كلما مسه الحزن، ليعود مليئا بحكاية الفرح يزرعها في قلوب من حوله. رحل «أبو غنوة» بعد أن ترك في قلوب من حوله كل الذكريات الجميلة، ربما ليساعدنا على تحمل الفقد، ولكن أليس تلك الحكايات الجميلة ستذكرنا بأنه لن يتسنى لنا رؤية جمال القبح طالما لا شيء مطلق ؟. S_ [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 127 مسافة ثم الرسالة