هكذا رحل الشاعر الصديق محمد الثبيتي.. بعد أن أنهكه المرض وأتعبته الحياة، بعد أن عاش مكسورا في مجتمع لا يقيم للمبدعين والخلاقين والمختلفين قيمة ولا معنى. هكذا ذهب إلى الموت بعد أن عاش حياة قصيرة بحزن كبير.. ومعاناة كبيرة وتجربة عميقة أنتجت وأخرجت هذه التجربة الشعرية الفريدة والاستثنائية في المشهد الشعري السعودي والعربي.. وتمثلت هذه التجربة من خلال حضور مفردات الصحراء والنخلة والبيد، وعبر تمثلات الفهم العميق لثقافة الجزيرة العربية. لم يكن محمد الثبيتي شاعرا عابرا في لغة عابرة وسطحية وهشة ولم يكن شاعرا.. بالمعنى المتداول والمتناول.. ولكن ذلك الشاعر الرائي.. الذي يرى أبعد من مما يراه الآخرون، هو شاعر رائي بامتياز.. وهو مثله مثل الشعراء الذين تجد في قصائدهم ثنائية اللغة والنبوءة، وقد أحدث تحولا حقيقيا وجذريا في بنية وبناء القصيدة السعودية بوصفه كلاسيكيا وحداثيا في آن، وبصفته جاء من القصيدة الخليلية متكئا على أعمدتها ومتجاوزا لعمودية الخليل بن أحمد الفراهيدي مع رؤية متجاوزة ومتخطية. لقد أعطى للقصيدة الحديثة نكهة أخرى.. وطعما آخر.. وهو ما جعله محل الرضى عند الذين يرتهنون في ذائقتهم للكلاسيكية الشعرية وعند الحداثيين كان مغايرا لحداثة منفلتة.. وذاهبة في التجريب حد السطحية والتقليد. صداقتي به التي أعدها واعتبرها بين صداقة الشخص وصداقة النص.. هي صداقة تمتد لأكثر من عشرين عاما، حيث كنا في مطلع الثمانينيات الميلادية ذلك الجبل الذي حاول اجتراح لغة جديدة في القصيدة الشعرية السعودية وفي الإبداع عبر إيجاد خطاب شعري متأثر بتجربة الحداثة العربية.. لقد اشتركت معه في عدة أمسيات لعل أبرزها وأهمها تلك الأمسية التي أقامها نادي جدة الأدبي الثقافي في عام 1405ه / 1985م مع الشاعرين الصديقين عبد الله الصيخان، ومحمد جبر الحربي، وهي الأمسية التي قال عنها الدكتور عبد الله الغذامي في كتابة «حكاية الحداثة»: «ليلة من ليالي الحداثة ليلاء.. تلك الأمسية تقابل الجميع مع الجميع والضد مع الضد، إذ حضر كل الحداثيين السعوديين وكل من هو محسوب على الحداثة من قريب أو بعيد». جاء من الدمام والرياض ومن جيزان مثلما جاءوا من مكةالمكرمة والطائف، جاء الشعراء والقصاصون مثلما جاء النقاد والصحافيون.. الكل جاء وفي مقابلهم جاء المعارضون وجاء الأكاديميون.. هكذا كتب الغذامي عن تلك الأمسية. ولقد اشتركت معه في أمسيات شعرية في مدينتي عمان وإربد، حين دعينا لمهرجان جرش 1984م مع الشاعر الراحل علي عمر آل عسيري بمشاركة شعراء عرب كبار، فيما اشتركت معه في إحياء أمسية شعرية في جزيرة فرسان بمشاركة شعراء آخرين. أتذكره الآن وأتذكر سنوات الثمانينيات الميلادية بكل ضجيجها وصخبها.. وكل ذلك الحضور الذي ساهم في إعادة النظر في كتابة الشعر.. بوعي جديد ومغاير.. أتذكره وأتذكر مشاركاتنا في مهرجان المربد في العراق تلك الحروب التقليدية المضادة والآتية من فكر سائد وثقافة سائدة.. أتذكر الثبيتي.. الإنسان البسيط والعميق ذلك الذي أخلص للقصيدة فأخلصت له.. أتذكر المخلصين والعابرين في تجربة الحداثة السعودية.. وأتذكر جيلا كان يحاول أن يؤسس لفهم جديد للشعر في بلادنا.. في مجتمع ينبغي له أن تتوازى وتتلاقى فيه حداثة الشعر مع حداثة الفكر، وحداثة العقل مع حداثة الممارسة. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 203 مسافة ثم الرسالة