أعاد بيان المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي الذي حرم تمثيل الأنبياء والصحابة الصادر الأسبوع الماضي الجدل من جديد حول هذه المسألة الشائكة والعالقة منذ أربعة عقود حتى الآن. ولئن كانت مسألة تجسيد الأنبياء تجد إجماعا من قبل علماء أهل السنة والجماعة، إلا أن قضية تجسيد أدوار الصحابة ما زالت تثير كثيرا من الإشكاليات بين الفقهاء ما بين مؤيد ومعارض ومتحفظ بشروط، وقد ساهم في زيادة موجة الخلاف بين الفقهاء ازدياد أعداد المسلسلات التاريخية التي تحكي سيرة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم منها ما أنتج وعرض وأخرى ما زالت في طور الكتابة أو التصوير ولعل أحدثها مسلسلا الحسن والحسين، ومسلسل الفاروق عمر بن الخطاب الذي تعتزم مجموعة إم بي سي بالتعاون مع تلفزيون قطر إنتاجه، والأهم من ذلك كله الفيلم الهوليودي الذي يتم العمل عليه وهو «محمد رسول الله» بتمويل من أحمد الهاشمي ومحمد العنزي وشركاء آخرين. ويبرز الصراع الفقهي في هذه الآونة بين الفقهاء في المجامع الفقهية الذين يرون حرمة تمثيل الصحابة وبين اللجان الشرعية المخولة بمراجعة نصوص المسلسلات والأفلام التي تجيز التمثيل ضمن ضوابط معروفة. وقد نص بيان المجمع الفقهي للرابطة على أن «الصحابة رضوان الله عليهم شرفهم الله بصحبة النبي، واختصهم بها دون غيرهم من الناس، ولا يمكن للممثلين مطابقة ما كان عليه الصحابة من سمت وهدي». أضاف البيان «ما يقال من أن تمثيل الأنبياء عليهم السلام والصحابة الكرام فيه مصلحة للدعوة إلى الإسلام، وإظهار لمكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب غير صحيح، ولو فرض أن فيه مصلحة فإنها لا تعتبر أيضا، لأنه يعارضها مفسدة أعظم منها، وهي ما سبق ذكره مما قد يكون ذريعة لانتقاص الأنبياء والصحابة والحط من قدرهم». وزاد «من القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية أن المصلحة المتوهمة لا تعتبر ومن قواعدها أيضا: أن المصلحة إذا عارضتها مفسدة مساوية لها لا تعتبر؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فكيف إذا كانت المفسدة أعظم من المصلحة وأرجح، كما هو الشأن في تمثيل الأنبياء والصحابة، ثم إن الدعوة إلى الإسلام وإظهار مكارم الأخلاق تكون بالوسائل المشروعة التي أثبتت نجاحها على مدار تاريخ الأمة الإسلامية. ووسائل الإعلام مدعوة إلى الإسهام في نشر سير الأنبياء والرسل عليهم السلام والصحابة الكرام رضي الله عنهم دون تمثيل شخصياتهم، وهي مدعوة إلى امتثال التوجيهات الإلهية والنبوية في القيام بالمسؤوليات المتضمنة توعية الجماهير؛ لكي تتمسك بدينها وتحترم سلفها». ورغم أن بعض المشاركين في المجمع قد عارضوا قضية التمثيل بشكل علني عندما قال الدكتور عبد الله الركبان إن القول بعدم الجواز يحتاج إلى دليل ومع علو مرتبة الصحابة رضي الله عنهم وعظم شأنهم وهم القرن المفضل والجيل المختار والذين حملوا لواء هذا الدين ونشروه، إلا أن تمثيلهم أحيانا يعطي فوائد جيدة ولربما رسخ منهجهم وطريقتهم في أذهان المتابعين أكثر من رسوخه فيما لو قرؤوا كتابا أو سمعوا درسا». مشددا على أن التمثيل له وقع ويبقى أثره في النفس، ووضع الركبان ضوابط لتمثيل الصحابة منها أن يختار رجل معروف بالاستقامة والصلاح ليتولى هذا الدور ولا يتولاه شخص يمثل أحيانا أدوار هي أبعد ما تكون عن الإسلام بل أحيانا ربما كان في تمثيله محاربة للإسلام. الوقوف على الحياد الركبان اعترض لكن الدكتور وهبة الزحيلي وهو عضو في المجمع قد وقف محايدا في هذه المسألة عندما قال «الأولى البعد عن تمثيلهم والاستعاضة عن ذلك بالبدائل»، واستدرك «لكننا لا نحرم تمثيل أدوار الصحابة ولا نجيزها في نفس الوقت» مبينا أنه كنوع من احترام هؤلاء الأشخاص وتقديرهم وإجلالهم فإنه يوضع هذا الأمر موضوع الكراهية، وأشار الزحيلي إلى احترامه لاجتهاد العلماء الذين أجازوا تجسيد أدوار الصحابة واصفا هذا الاجتهاد بالمحمود الذي يرى أصحابها مصلحة الإسلام والمسلمين. ولم يكن المجمع الفقهي الإسلامي في مكة هو الوحيد المعارض بل سبقه قرارات وفتاوى تحريمية من قبل، اتفق أعضاء مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف والذي عارض تمثيلهم وظهورهم منذ إنتاج فيلم الرسالة للمخرج السوري مصطفى العقاد في سبعينيات القرن الميلادي الماضي وظلوا على موقفهم في اجتماعهم الأخير برئاسة الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر الذي عقد في 27 فبراير من العام الماضي بمشاركة 200 عالم. روئ أعضاء المجمع تعارضت مع اجتهادات فقهية لعلماء معتبرين رأوا أن المصلحة في تمثيل الصحابة بضوابط وعلى رأسهم رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الدكتور يوسف القرضاوي الذي أجاز تجسيد أدوار الصحابة بضوابط شرعية مستثنيا الأنبياء وأمهات المؤمنين والخلفاء الراشدين وثلاثه فقط من العشرة المبشرين بالجنة هم أبو عبيدة عامر بن الجراح وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام لما لهم من منزلة خاصة بين الصحابة والمسلمين، وأجاز تمثيل الثلاثة المبشرين بالجنة وهم سعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص رضوان الله عليهم وباقي الصحابة الكرام، وعلل القرضاوي فتواه بالجواز بقوله «إن ما استقر عليه الفقه المعاصر من مدة طويلة أنهم لم يحرموا تمثيل جميع الصحابة وإنما حرموا تمثيل الخلفاء الراشدين والعشرة المبشرين بالجنة وأمهات المؤمنين»، واستدل القرضاوي بظهور فيلم عن سيدنا خالد بن الوليد قبل 50 سنة في مصر مثله وأخرجه الممثل حسين صدقي ولم يعترض عليه أحد من علماء الأزهر، كما تم من فترة تجسيد دور حمزة بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم وجسد الدور ممثل إنجليزي ولم يعترض العلماء على تمثيله، وشدد القرضاوي على أنه لا يجوز أن نتوسع في تحريم التمثيل، موضحا أن لهذه التمثيليات دور كبير في التعريف برموز الأمة ونشر الدعوة والقدوة. وساند نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عضو مجمع الفقه الإسلامي الدكتور عبد الله بن بيه رأي القرضاوي في أنه لا مانع من تمثيل دور الصحابة إذا كان بطريقة محترمة شكلا ومضمونا وتقديم الصحابي بصورته الأصلية دون تزوير للتاريخ. تشخيص الواقع وشخص المشرف على موقع الإسلام اليوم الداعيه الدكتور سلمان العودة الواقع باعترافه بوجود اختلاف بين الفقهاء حيال هذه القضية، لكن العودة يرى أنه يجب النظر إلى العمل فإذا تم تجسيد الصحابي بشكل مقبول وحسن دون تزوير أو إساءة له ودون وجود مشاهد فاضحة فإنه أمر حسن، لكنه يؤكد أن تمثيل أدوار الصحابة يعتبر محرما ومذموما والأولى تركه والابتعاد عنه في حالة كون المسلسل مسيء للصحابي المراد تمثيله وفيه تزوير للتاريخ وعلى المنتجين، ودعا العودة أصحاب الفضائيات والممثلين والمخرجين أن يتقوا الله ويسعوا لإظهار هؤلاء الشخصيات كما هي دون زيادة أو نقصان حتى تتحقق الفائدة المرجوة من العمل. وجهة نظرة المنتجين كانت معتدلة حيال هذا القرار حيث أبدوا احتراما كبيرا للفتوى التي صدرت من المجمع الفقهي في مكة إضافة لكل الفتاوى التي صدرت من جميع العلماء والمفتين الآخرين الذين يعارضون تمثيل الصحابة، لكنهم شددوا على أن لديهم لجانا شرعية تضم في عضويتها خيرة العلماء والفقهاء في العالم الإسلامي وسيأخذون بآرائهم. وهنا قال مالك مجموعة إم بي سي الشريكة في صناعة مسلسل عمر بن الخطاب الوليد البراهيم ل«عكاظ»: إنه من المبكر الحديث عن مسألة تمثيل دور الفاروق عمر بن الخطاب وباقي الصحابة رضوان الله عليهم في الوقت الحالي مضيفا «أعتقد أنه من السابق لأوانه أن نناقش مثل هذا الموضوع في الوقت الحالي لأنه قبل اتخاذنا لأي قرار حول هذه المسألة الحساسة سنأخذ آراء جميع الهيئات الشرعية بما فيها المجامع الفقهية في رابطة العالم الإسلامي ومنظمة المؤتمر وهيئة كبار العلماء ومجمع البحوث في الأزهر وغيرها، مؤكدا أن العمل سيكون مطابقا للشريعة الإسلامية وسيتم استشارة كل الجهات الشرعية والاستماع لجميع وجهات نظرها حول العمل»، وشدد البراهيم على أن هدفهم من العمل تصحيح تقديم التاريخ الإسلامي بشكل حقيقي وواقعي بعيدا عن التزييف والكذب، مشيرا إلى أن العمل موجه لجميع المسلمين بمختلف أطيافهم وكذلك لغير المسلمين لمعرفة حقيقة الاسلام ورموزه. ولربما كانت زيارة الوليد البراهيم مع لجنته الشرعية المخولة بمراجعة مسلسل عمر بن الخطاب لشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب نوعا من التفاهم مع الأزهر الذي يحرم تمثيل الصحابة منذ أمد طويل. تأجيل المناقشة كلام البراهيم شدد عليه عضوا اللجنة الشرعية المخولة بمراجعة نص مسلسل عمر بن الخطاب الدكتور سلمان العودة والدكتور عبدالوهاب الطريري اللذين اعتبرا في حديث ل«عكاظ» أن مسألة تجسيد الفاروق عمر بن الخطاب وباقي الصحابة مؤجلة لحين الانتهاء من مراجعة النص تاريخيا، مفضلين تأجيل الحديث عن هذه المسألة في الوقت الحالي. ولم تكن وجهة نظرة المنتج محمد العنزي الذي سبق وأنتج مسلسل خالد بن الوليد الذي عرض وأثار جدلا كبيرا، ويعكف حاليا على مونتاج مسلسل «الحسن والحسين» وسيكون أحد الشركاء في صناعة الفيلم الهوليودي العالمي «محمد رسول الله» بعيدة عن نظرة البراهيم حيث قال «أحترم فتوى العلماء الأجلاء لكن لدينا لجان شرعية من خيرة العلماء تضم في عضويتها الدكتور يوسف القرضاوي والدكتور سلمان العودة والدكتور عبد الله بن بيه ومفتي سوريا وغيرهم هي تدرس النص وتبدي رأيها في مسألة تجسيد الصحابة الذي أجيز في بضوابط»، واعترف العنزي أن توجهه للإنتاج كان دافعه نشر قصص الرسل والصحابة رضوان الله عليهم ليكون قدوة إيجابية لأبنائنا في زمن أصبحت فيه القدوة لنجوم السينما وأفلام الكرتون وكرة القدم. مشيرا إلى أنهم وضعوا ميزانيات كبرى تصل إلى ثلاثة ملايين دولار لمسلسل الحسن و150 مليون دولار للفيلم الهوليودي محمد رسول الله، ولو أرادوا المتاجرة لتم وضع هذه الميزانيات في أعمال اجتماعية لأنها أكثر ربحا من الأعمال التاريخية المرهقة في الميزانية والتكاليف وأقل ربحية من غيرها. الضوابط الشرعية وأشار العنزي إلى أنه قبل عامين حرر مجموعة كبيرة من خيرة علماء الأمة وثيقة في 300 كلمة تضع ضوابط الشرعية لهذه المسألة الشائكة التي تثار منذ فيلم الرسالة وخلصت الوثيقة إلى «أنه لا يجوز تشخيص أدوار الأنبياء جملة وتفصيلا، ولا يجوز تمثيل الخلفاء الراشدين بصورة كاملة، إلا أن يكون ظلا بدون ظهور الوجوه والملامح، ويستثني الشيخ يوسف القرضاوي العشرة المبشرين بالجنة؛ لأنهم قادة الصحابة وأكابرهم، والشهادة المنصوصة لهم في الآثار المشتهِرة تعني التخصيص والفضيلة الزائدة التي تجعلهم كالمقدس الذي لا يجوز تمثيله، وما سواهم فيجوز تشخيصهم في الدراما بالشروط المذكورة، على أن هذا هو ما يغلب على الظن من حيث الحكم الشرعي، أما الفعل من عدمه، والنظر في جدواه فلهذا حديث آخر، فقد يرى المتخصصون عدم ظهور هذه الشخصيات العظيمة، غير أن الحكم بالأولى غير بيان الحكم في أساسه». وأكدت الوثيقة أن «تدارس سبل الحل الأمثل الذي من شأنه أن يمهد لاقتحام هذه الميادين للمخلصين والقاصدين لحماية الأجيال، مؤكدين أهمية أن يكون للإعلام والدراما الهادفة مرجعية شرعية متزنة. ومن الموقعين على الفتوى (د. يوسف القرضاوي، د. عبد الله بن بيه، د. خالد المصلح، د. سعود الفنيسان، الشيخ عبد الحي يوسف، د. عصام البشير، د. عجيل النشمي، د. نصر واصل، د. وهبة الزحيلي، د. هاني الجبير). أما المنتجون والمخرجون ففضلوا الابتعاد عن التعليق على قضية الفتاوى حيث رفض الكاتب الدكتور وليد سيف الذي يعكف حاليا على كتابة مسلسل الفاروق عمر بن الخطاب الحديث عن قضية تجسيد أدوار الصحابة، مشددا على أن هذه القضية ليست من مسؤوليته أو تخصصه وأن العمل متروك برمته للجهات الإنتاجية والعلماء لتحديد ذلك، ورفض المخرجين حاتم علي ومحمد عزيزية الخوض في الأمر مرجعين ذلك للعلماء والفقهاء وأن مهمتهم هي فنية بحتة.