للأسف الشديد أن التخلف الحضاري المعرفي والعلمي والثقافي الذي يعاني منه المسلمون لم يتوقف عند حدود العلوم النظرية والتطبيقية والثقافة العامة، بل وصل للتخلف في مجالات العلوم الإسلامية، والعلوم الإسلامية ليست مجرد علوم الفقه وأصول الدين، فتاريخيا العصور الأولى للإسلام كانت عصور التأسيس للأطر والأدوات الفقهية وحفظ المصادر الأساسية من حديث نبوي وسير، وفي العصور الوسطى تطورت فروع بالغة الثراء للمعارف الإسلامية وهي التي يمكن تصنيفها حسب مصطلحات العصر بأنها علم النفس الإسلامي، أو حسب المصطلح القديم علم القلوب والحكمة، حيث صار التركيز الأساسي هو على معارف التربية والتزكية والترقية النفسية والسلوكية الأخلاقية والروحية ومعارف التبصر والحكمة، ولا تزال تلك الكتب هي الأكثر جاذبية للمسلمين القاصدين للمعرفة الإسلامية المعمقة غير المصطبغة بصبغة أدبيات الإسلام الحركي المعاصرة وخاصة بالنسبة للمسلمين الجدد، حتى أنه تثار شبهة بوجود مؤامرة معادية للإسلام في إحياء تراث رموز تلك المعارف الإسلامية الجوهرية كتراث الإمام أبو حامد الغزالي والتي تصنف على أنها صوفية، في واقع متكهرب بالتصنيفات، وصحيح أن الحكومات الغربية لم تخف رغبتها في تطور اهتمام المسلمين بتوجهات أكثر سلمية وبعدا عن أدبيات الجماعات الإسلاموية المعاصرة، لكن المجتمعات الغربية لا سيطرة لإرادة الدولة على الفرد ولهذا فإن الغربيين لا يقبلون على تراث العصور الوسطى الإسلامية بسبب رغبة حكوماتهم في ذلك إنما لأن تلك المجتمعات وبخلاف مجتمعاتنا التي تعاني من تخلف كلي في الثقافة النفسية؛ لغياب تدريس علم النفس على مستوى التعليم المدرسي، بينما في الغرب هو من المواد الأساسية علاوة على كثافة حضور مفاهيم علم النفس على وسائل الإعلام، ولهذا لدى الإنسان الغربي معرفة متطورة بتعقيدات النفس البشرية، وفي أمريكا هي موضة رائجة أن يكون لكل إنسان معالج نفسي وحتى لو كان لا يعاني من مشكلة نفسية بعينها لكن بسبب كثافة حضور الثقافة النفسية في مجتمعهم تعتبر مراجعة التفاعلات النفسية مع أحداث الحياة من وسائل التعاطي الصحي مع الضغوطات، ولهذا تلقى المعرفة الإسلامية النفسية القديمة رواجا واسعا في الغرب باعتبارها تتناول تعقيدات الذات الإنسانية وتشرح ماهية نزعاتها وطبائعها وتفاعلاتها وكيف يمكن معالجتها وماهية مقامات الترقي النفسية والإدراكية والروحية التي يجب أن يضع الإنسان نفسه على طريقها ويكون على وعي بموقعه منها، وكيف يعالج علله النفسية الروحية وكيف يحول محنها إلى منح، بينما المكتبة الإسلامية المعاصرة وعلاوة على ضعف جانب الاجتهاد الفقهي فيها، فكل علوم القلوب قد انقرضت فيها بشكل كلي حتى أن من لا يرجع لتراث العصور الوسطى لا يمكنه أن يعرف أن هناك هذا الوجه للإسلام، ويطغى على المكتبة الإسلامية المعاصرة الكتيبات المبسطة حول المظاهر الفقهية والعقائدية والكتب التي تتمحور حول الدفاع عن الإسلام ضد الصور النمطية السلبية السائدة عنه، لكن الرد غالبا ما يكون بلغة إنشائية خطابية لا تحمل عمقا فكريا ولا علميا يمكن به مخاطبة الآخر أو حتى المثقف المحلي، فهي لا تزيد عما يسمع في الخطب والبرامج التلفزيونية والتعليقات الإنترنتية، وهناك فخ وقع فيه الذين أرادوا تكريس الإسلام «كهوية» مقابل الغرب فانصب اهتمامهم على ما يعزز مظاهر تلك الهوية فتولد الاهتمام المفرط بالمظاهر والشكليات والرموز مقابل إهمال العمق الجوهري للمبدأ الإيماني كحقائق داخلية على الإنسان أن يهتم بتحقيقها في ذاته، وبالمناسبة الصدق والأمانة وما شابه من الأساسيات الأخلاقية تعتبر من أساسيات «الاستقامة» وهي المقام الأولي، لكن هناك مقامات في الترقي الأخلاقي والإيماني انقرضت المعرفة بها بالكامل ولو كانت موجودة لما كان يمكن لمسلم أن يستسيغ الأنماط الإرهابية التي تقوم على المخادعة وقتل الغيلة والغدر بالعزل والنساء والأطفال، أو عنف تعامل هيئة الأمر بالمعروف مع الجمهور والعنف الأسري واضطهاد الأنثى، كما ذكر ابن القيم في كتابه «مدارج السالكين» عن مقام «الفتوة» وهو نخوة رهافة الحساسية الأخلاقية، ومن الأمثلة التي أوردها عليه؛ تزوج رجل بامرأة فلما دخلت عليه رأى بها آثار التشوه بالجدري فادعى أنه أصيب بالعمى المفاجئ «وبعد عشرين سنة ماتت ولم تعلم أنه بصير فقيل له في ذلك فقال: كرهت أن يحزنها رؤيتي لما بها» وفي قصة أخرى تأخر خادم في جلب الطعام لسيدة وضيوفه فغضب منه فلما حضر أخيرا سأله عن تأخره فقال إن مائدة الطعام «كان عليها نمل فلم يكن من الأدب تقديم السفرة مع النمل ولم يكن من الفتوة إلقاء النمل وطردهم عن الزاد» فلو أن خلق المسلمين المعاصرين كان على هذه الشاكلة هل كانوا سيحتاجون لكل البرامج والمطبوعات التي تندد بالصور النمطية السلبية السائدة عنهم؟! [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 217 مسافة ثم الرسالة