«لا يجوز الرمي إلا بعد الزوال في يوم 12» فتوى سمعها الحاج محمد من أحد الدعاة فتملكته الحيرة والدهشة معا. وكان مصدر حيرة محمد أنه سمع الفتوى من أكثر من داعية يجيز له الرمي في أي وقت حتى ولو كان قبل زوال يوم الثاني عشر من ذي الحجة، فتوجه للداعية يسأله عن سبب إطلاقه لهذه الفتوى فجاءه الجواب بأن مشروع جسر الجمرات الجديد ومشروع قطار المشاعر قد حلا إشكالية الرمي فزالت الحاجة لفتوى الرمي في أي وقت. تلك الصورة بدأت تطفو على السطح منذ أكثر من عامين فالأسئلة تدور حول التراجع من قبل بعض العلماء والدعاة عن فتاوى التيسير بسبب المشاريع الجديدة ومن أبرزها فتوى الرمي في أي وقت. فمبرر البعض أن الحاجة لهذه الرخصة قد زالت بتشييد جسر الجمرات الجديد، أما الفريق الآخر فيرى أن الحاجة لفتاوى التيسير ما زالت قائمة خصوصا أن أعداد الحجيج في ازدياد مستمر والمشاعر المقدسة صغيرة ضيقة المساحات لا تستوعب الأعداد المتزايدة من الحجيج مما يعني أن الرجوع إلى الفتاوى القديمة لم يعد له حاجة. وهنا يؤكد وكيل وزارة الشؤون البلدية والقروية الدكتور حبيب زين العابدين أن الحاجة لفتاوى التيسير قائمة ولا تنتفي بوجود المشاريع الجديدة في المشاعر التي تسهل على الحجاج تأدية مناسكهم «المشكلة تكمن في توجه هذه الحشود الكبيرة في وقت واحد نحو الحرم المكي مما يسبب تزاحما كبيرا قد تحدث معه اختناقات لذلك ما زلنا نؤكد على ضرورة التوسع في موضوع فتاوى رمي الجمار». ودعا زين العابدين العلماء بتيسير موضوع رمي الجمار قبل الزوال بالاعتماد على بعض الفتاوى القديمة مثل رأي أبو حنيفة وغيره من العلماء، معللا رأيه بأن هذه الفتوى سوف تساعد الحجاج كثيرا وستخفف الزحام في المنطقة المركزية، وشدد زين العابدين على أنه مهما زادت سعة الجسر فإن الحجاج في ازدياد بوصولهم إلى أكثر من ثلاثة ملايين. واتفق رأي قائد أمن المشاة في الحج اللواء سعد الخليوي مع رأي زين العابدين في أن الحاجة لفتاوى التيسير قائمة ولا تلغيها المشاريع الجديدة، مشددا على أن المشكلة التي يعانون منها جراء رمي الحجاج في وقت واحد يوم الثاني عشر تتجلى في المنطقة المركزية في الحرم المكي، معتبراً أن «جسر الجمرات حل الإشكالية الاستعابية للأعداد الكبيرة لكن مشكلة الاستعابية في الحرم المكي بحاجة لحلول ومنها بقاء الحجاج في منى وعدم التعجل أو الذهاب لبيوتهم في مكة والتيسير على الحجاج بالرمي في أي وقت ما أمكن ذلك». توضيح الصورة المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة الدكتور خالد المرغلاني كان له رأي آخر، إذ رأى أن العلماء بحاجة لمن يوضح لهم الصورة الكاملة حتى يتم التعامل مع الفتوى والاجتهادات فيها وفق المعطيات الجديدة. وانطلق المرغلاني من تجربة له على أرض الواقع عندما تحدث مع عضو هيئة كبار العلماء المستشار في الديوان الملكي الدكتور عبدالله المطلق حول مسألة الترخيص للحجاج باستخدام البطانيات في أيام البرد الشديد التي مرت خلال عدة مواسم قبل سنوات. وأكد المرغلاني على ضرورة التنسيق بين الجهات العاملة في الحج مع العلماء ودعاة وزارة الشؤون الإسلامية لإيضاح الصورة كاملة حتى تخرج الفتوى متوائمة مع الخطط وتراعي أمن وسلامة الحجاج. مسألة خلافية على الجانب الآخر، فقد اختلف الشرعيون والفقهاء حول المسألة فمنهم من رأى أن القضية تحتاج لإثبات قبل العودة عن الفتوى، وقسم يرى أن كل مسائل الدين مبنية على اليسر ولا تحتاج لمشروع أو غيره للتراجع عن الفتوى، والقسم الثالث ربط تعليق الفتوى بزوال المشقة. وقد تبنى عضو هيئة كبار العلماء عبدالله بن منيع وجهة النظر الأولى حول ضرورة وجود إثبات على مسألة زوال المشقة قبل إعادة النظر في الفتوى بقوله «الفتوى مرتبطة برفع المشقة فإذا وسع جسر الجمرات وفي الوقت نفسه زاد عدد الحجاج على عشرة ملايين مثلا لبقي الإشكال واحتجنا للأخذ بالفتوى التيسيرية لرفع المشقة عن الحجاج لذلك فالمسألة بحاجة لإثبات على ذلك». وشدد المنيع على أن التخفيف في العبادة مرده التيسير ورفع الحرج عن الأمة، مفيدا أن القاعدة الشرعية أن الأمر إذا ضاق اتسع، مضيفا «بناء على ذلك فإن الأخذ بالرخص هو مقيد برفع الحرج فإذا لم يكن هناك حرج أو ضيق فيجب الأخذ بالمزيد من العناية بكمال العبادة والكف عن الترخيص بالرخص المبنية على وجود مبررها من رفع للحرج وأخذ بالتيسير وبناء على ذلك، فإن الفتوى بجواز الرمي قبل زوال الشمس مقيد بوجود الحرج والمشقة فإذا زال ذلك وتيسر أمر الجمر بعد زوال الشمس بتوسيع جسر الجمرات أو غيره، ولم يترتب على ذلك شيء من المتاعب والمشاق فيجب الكف عن هذه الرخصة». إزالة المشقة ورأى نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الدكتور عبدالله بن بيه أنه عند تعليق الفتوى أو إعادة النظر فيها يجب التأكد من أن الحاجة قد انتفت لهذه الفتوى من خلال الدراسات العلمية والواقع الذي نشاهده عندها يمكن إصدار الحكم النهائي حول حاجتنا للفتوى من عدمها مؤيدا في ذلك كلام ابن منيع. وبين بن بيه أن العلاقة بين الفتاوى والواقع هي علاقة حميمة، وبالتالي إذا ظهر أن المشاريع الكبيرة جدا ومن ضمنها جسر الجمرات تخفف وطاءة الزحام وبالتالي تنزل درجة المشقة فإنها ستؤثر على الفتوى بلا شك، مضيفا «إذا لم تصل المشقة لدرجة المشقة الوسطى والخفيفة وظلت المشقة على مستوى المشقة الكبرى وهي مشقة الضرورات فستظل فتوى التيسير والتخفيف قائمة ومن ضمنها رمي الجمار قبل الزوال وغيرها». مبدأ التيسير وجهة النظر الثانية تبناها مستشار وزير الشؤون الإسلامية لشؤون الحج والعمرة والزيارة طلال العقيل، الذي أكد أن الدين كله قائم على التيسير وليس فقط مناسك الحج، مشددا على أن علاقة الفتوى بالمشاريع قائمة وهي تعتمد على رفع الحرج وإزالة المشقة عن الحجاج في المقام الأول. ولفت العقيل إلى أن وزارة الشؤون الإسلامية تتبنى التيسير في أمور الحج ولا تحاول عرقلة الحجاج أو تشكيكهم في بعض المعلومات الفقهية في حال وجود خلاف فقهي حول هذه المسألة، وذكر العقيل أن الوزارة تحرص على اختيار الأيسر والأسهل بما يتوافق مع الشريعة دون الإخلال بأركان وأحكام النسك. الرمي قبل الزوال ورد عضو هيئة التدريس في كلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الدكتور عبدالحكيم العجلان على الرأي بأن فتوى الرمي قبل الزوال ستخفف من وطأة الزحام في المنطقة المركزية في الحرم يوم 12 بقوله «القائلون بهذا القول أطلقوا، مع أن كل من قال به قال: يجوز الرمي قبل الزوال، قالوا: لا ينفر حتى تزول الشمس وإن رمى قبله سوى طاووس ولذا حصل حرج على الناس كثير في ازدحام طواف الوداع، فلم يكن محصلا للمصلحة من كل وجه»، مضيفا «من قال به على وجه الإطلاق مع أن الكلفة والمشقة إنما هي حاصلة في اليوم الثاني عشر وهي التي نقل عن السلف والفقهاء القول بجواز الرمي فيها قبل الزوال»، ورأي العجلان أن الحكم يحتاج إلى مراجعة من هذه الجهة ومن الجهة الثانية حتى ينتفي الحرج الذي علق بعضهم الفتيا في فتواه». نظرة الفقيه ولاحظ رئيس حملة السكينة والداعية عبدالمنعم المشوح أن اهتمام الناس ينصب في قضية ربط تعليق بعض الفتاوى بالمشاريع الجديدة في فتوى واحدة هي الرمي قبل الزوال أو بعده متناسين أن وقت الرمي ممتد إلى منتصف الليل أو الفجر وهي مسألة تخدمها الأدلة الصحيحة. مضيفا «لاحظ الجميع انتفاء علة التدافع والازدحام والمهالك التي كانت تحدث في كل سنة نظرا لتوسيع الجمرات وتنظيم عملية الحركة حولها وفيها، فعلى هذا يضعف قول من أجاز الرمي قبل الزوال معللا ذلك بالازدحام وضيق المكان»، وأفاد أن في الشريعة توسيعاً وتيسيرا في الوقت كما هي فتوى هيئة كبار العلماء في السعودية بجواز الرمي من بعد الزوال إلى الليل، لذلك التركيز على وقت الرمي قبل الزوال قد يكون من باب التكلف، خاصة وانتفاء العلة. وأوضح المشوح أن التغييرات البنائية والتنظيمية في منى معتبرة عند الفقيه والمفتي، فالأحكام كلما ضاقت اتسعت في حدود المسموح به شرعا.