يفهم من النصوص القرآنية، أن ما من حكم في الشريعة الإسلامية إلاّ وفيه خير ومصلحة للناس في دنياهم وآخرتهم، ولا يتصور أن يكون في الشريعة المقطوع بها حكم يضاد مصالح الخلق، أو يكون مجلبة للإضرار بهم، ومن هنا فإن على المفتي أن يراعي في فتواه مصالح الناس شريطة عدم المغالاة في ذلك لحد تقديمها على النص، وإلاّ فإن فتواه تعد باطلة، كما أن أبرز المصالح التي ينبغي على المفتي مراعاتها، مراعاة المصالح المتغيرة، والمصالح المستجدة، والمصالح التي اقتضتها ضرورات العصر وحاجاته والتطور العلمي. هل منشأة الجمرات أضعفت قول من أجاز الرمي قبل الزوال؟ كما يجب على المفتي في القضايا المعاصرة، أن يتقيد في فتواه بمذهب معين، وإنما يأخذ من أقوال العلماء ما كان أرجح دليلاً وأكثر تحقيقاً لمقاصد الشريعة، ورعاية مصالح الناس والتيسير عليهم. وليس المقصود بالتيسير الإتيان بشرع جديد أو إسقاط ما فرض الله، إنما المقصود في ذلك الوسطية في الفتوى، وتقديم الأيسر على الأحوط، والتيسير فيما تعم به البلوى، ومراعاة الرخص والتحري وعدم التوسع في تكليف الناس بالأحكام دون دليل صريح يقضي ذلك. وسمعنا في إذاعات وقنوات فضائية مؤخراً تراجعاً من قبل بعض العلماء والدعاة عن فتاوى التيسير في الحج؛ بسبب المشروعات الجديدة في المشاعر المقدسة، ومن أبرزها فتوى الرمي. ومبرر البعض أن الحاجة لهذه الرخصة قد زالت بتشييد جسر الجمرات الجديد، أما الفريق الآخر فيرون أن الحاجة لفتاوى التيسير مازالت قائمة خصوصاً أن أعداد الحجيج في ازدياد مستمر، والمشاعر المقدسة صغيرة ضيقة المساحات لاتستوعب الأعداد المتزايدة من الحجيج؛ مما يعني أن الرجوع إلى الفتاوى القديمة لم يعد له حاجة. التيسير للمشقة يقول عضو هيئة المحكمين السعوديين «د.أحمد المعبي» إن تيسير الفتوى مطلوبة، ولكنها في موسم الحج قد تقتصر على الجمار بحكم التوسعة والتيسير على الناس، فكانت الفتوى أن الرمي لليوم الثاني عشر قبل الزوال، ووقّته الرسول بعد الزوال، وهذا وقت اختيار، وبعد الغروب إلى منتصف الليل، وهذا وقت الضرورة، فعندما تم التوسع بالجمار مع جسر الجمرات والقطار زالت الضرورة، فرجع حكم الاختيار فقط، لزوال المشقة التي جلبت التيسير. وأضاف:»يجب الأخذ بالرخص حسب حالة الحاج من كبر وعجز، فالتوسعات تزيل كثيراً من الإباحة، ولكننا نبحث عن اليسر في كل شيء، وفي حال انتقال الفتوى للحرم بحكم التوسعة والازدحام، فالتيسير على الحجاج والطواف بالحرم أولى بالفتوى؛ لأن الازدحام يجلب المشقة، والتيسير في هذه الحالة أولى. كثافة عددية أما أستاذ العقيدة بجامعة الملك خالد «د.عبدالعزيز قنصل»، فقال: من ناحية التيسير في المشاعر المقدسة من رمي الجمرات والطواف والسعي فهي منطقة مفتوحة، فكان النبي يستقبل القبلة ويرمي بالجمرات وليس هذا ركناً وليس واجباً وانما هي سنة، ولكن عندما نأتي عند السعي، أرى أن الخطوة التي قامت بها حكومة خادم الحرمين الشريفين بتوسعة المسعى خطوة ممتازة ويشكرون عليها، مشيراً إلى أن الطواف يحتاج إلى توسعة «الصحن» لاستيعاب الازدحام والكثافة العددية، متمنياً أن يعمل دور ثان في نفس المسعى، ويغطى النصف الأول بحدود مترين في الصحن، ويعمل دور ثان للطواف داخل الكعبة تخفيفاً على الطواف. وأشار إلى أن الأمور التي يوجد بها تيسير تنتقل إلى كل مناحي الحياة، وليس فقط في الحرم، فهذا من هدي النبي ما خير بين أمرين إلا أختار أيسرهما مالم يكن فيه إثم أو قطيعة رحم، والتيسير يجب أن يكون مقنناً وأن تفرض شريطة أن لا يكون تتبع التيسير فقط للرخصة، ولكن التيسير لا بد منه وعدم الزام الناس بفتوى خاصة أو مذهب معين، مؤكداً على أن هناك ثوابت ومتغيرات واليسير يكون في المتغيرات، أما الثوابت فهي مالا يجب أن يمسها أحد. رفع الحرج د.قنصل: المهم عدم إلزام الناس بفتوى خاصة أو مذهب معين أما مستشار وزير الشؤون الإسلامية لشؤون الحج والعمرة والزيارة «الشيخ طلال العقيل» فبين أن الدين كله قائم على التيسير، وليس فقط في مناسك الحج، مشدداً على أن علاقة الفتوى بالمشروعات قائمة، وهي تعتمد على رفع الحرج وإزالة المشقة عن الحجاج في المقام الأول. وقال:»إن وزارة الشؤون الإسلامية تتبنى التيسير في أمور الحج، ولاتحاول عرقلة الحجاج أو تشكيكهم في بعض المعلومات الفقهية في حال وجود خلاف فقهي حول هذه المسألة»، مشيراً إلى أن المبدأ العام في هذه المسائل هو قول الرسول في حجة الوداع «افعل ولاحرج»، مضيفاً: «إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام ييسر على الحجاج وعددهم حينها كان مائة ألف؛ فإنه كان يؤسس لقاعدة التيسير»، مؤكداً على أن الوزارة تحرص على اختيار الأيسر والأسهل بما يتوافق مع الشريعة دون الإخلال بأركان وأحكام النسك. توسيع ويسر وبين مستشار فرع الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد بمنطقة عسير «محمد الدباش» أنه نظراً لتوسيع الجمرات، وتنظيم عملية الحركة حولها وفيها، فهذا يضعف قول من أجاز الرمي قبل الزوال، معللاً ذلك بالازدحام وضيق المكان. وقال:»إن الشريعة توسيعاً وتيسيراً في الوقت – كما هي فتوى هيئة كبار العلماء في السعودية – بجواز الرمي من بعد الزوال إلى الليل, لذلك التركيز على وقت الرمي قبل الزوال قد يكون من باب التكلّف خاصّة وانتفاء العلّة، مشيراً إلى أن التيسير في الشريعة والرخص ورفع الحرج, كلها تأتي مرتبطة بسبب واقعي فإذا انتفى هذا السبب رجعنا إلى الحكم الأصلي، مبيناً أن هذا كله يرجع إلى نظر العالم الفقيه أو المُفتي، مؤكداً على أن ديننا ليس فوضى وليس لكل من ادعى التيسير أن يبسط ذلك على عواهنه، فهذا دينٌ والمسائل تتعلق بشعائر وفريضة عظيمة من فرائض الإسلام. حاج مع عائلته يرمي جمرة العقبة بيسر وسهولة الفتوى التيسيرية وقال «د.حامد أبو طالب» أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية ظهران الجنوب «إن التخفيف في العبادة مرده التيسير ورفع الحرج عن الأمة، والقاعدة الشرعية تفيد أن الأمر إذا ضاق اتسع، فالأخذ بالرخص هو مقيد برفع الحرج، فإذا لم يكن هناك حرج أو ضيق فيجب الأخذ بالمزيد من العناية بكمال العبادة والكفّ عن الترخيص بالرخص المبنية على وجود مبررها من رفع للحرج، وأخذ بالتيسير، وبناء على ذلك، فإن الفتوى بجواز الرمي قبل زوال الشمس مقيد بوجود الحرج والمشقة؛ فإذا زال ذلك وتيسر أمر الجمر بعد زوال الشمس بتوسيع جسر الجمرات أو غيره، ولم يترتب على ذلك شيء من المتاعب والمشاق فيجب الكف عن هذه الرخصة»، مؤكداً على أن الفتوى مرتبطة برفع المشقة؛ فإذا وسع جسر الجمرات وفي الوقت نفسه زاد عدد الحجاج عن عشرة ملايين مثلاً لبقي الإشكال واحتجنا للأخذ بالفتوى التيسيرية لرفع المشقة عن الحجاج؛ لذلك فالمسألة بحاجة لإثبات على ذلك. نظرة فقهية وبين «د.عبدالله آل هادي» أستاذ العقيدة بجامعة نجران أن التيسير في الحج ورفع الحرج فيه لا يخلو من حالين،: الأولى ما جرى بها النص ودلّ عليه الدليل؛ فإنه لا يسع الفقيه والمفتي إلاّ أن يقول به ويوسع على الناس فيه، ابتداء واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة ذلك أمره للنساء والضعفاء بالنفرة من مزدلفة بعد منتصف الليل، والحالة الثانية تكون عندما يكون مناط التيسير هو حصول المشقة ونزول الكلفة، فللفقيه النظر في إمكان رفعها أو تخفيفها بحسب ما يفتح له من الأدلة العامة، ونقل أحوال أهل العلم ويكون ذلك منوطاً بتلك المشقة، فمتى زالت وجب رجوع الحكم إلى أصله وبقاؤه ومثله من علق رمي الجمار قبل الزوال على المشقة، ويكون ذلك مرتبطاً بتوسيع جسر الجمرات وسهولة الرمي عنده تنتفي الحاجة. وطالب «آل هادي» المتصدين للفتوى في الحج أن يجعلوا نصب أعينهم أن التيسير ورفع الحرج معتبر بما يدل عليه الدليل، ويسعفه الاستنباط من الأدلة، لا ما يكون اعتباره إلى نظر المفتي المجرد؛ فيحصل بذلك تعبد الناس إلى آراء المفتين دون اعتبار بالدليل والمأخذ الشرعي.