أتعرفون دولة اسمها تشيلي على الخريطة؟ فليسامحنا الله على جهلنا، كنا لا نعرف عنها شيئا، لكننا تعرفنا أخيرا بعد واقعة منجم النحاس والذي أنهار على روؤس 33 عاملا كادوا أن يدفنوا أحياء وقد قضوا 69 يوما بين موت وحياة!! قصة مؤثرة جعلتنا نغرم بتشيلي بعد اللقاء الأول فغدونا نتجول فيها كل يوم ومع كل نشرة أخبار ونحلق مع كل موجة بث ونرافق كل مراسل يطل علينا من أرض الواقعة عله يأتي بجديد عن المحاصرين تحت الأنقاض!! تشيلي التي تستلقي في دلال على ساحل المحيط الهادي تخلت عن هدوئها بالثلاثة وتذمرت وثارت على كل شيء!! حياة 33 فردا أوقفت حياة بلد بأسره وأصبحت الشغل الشاغل للعالم بأكمله.. وماذا يعني 33 شخصا لدولة تعدادها 17 مليون نسمة، تقبع في طرف قارة أمريكا الجنوبية التي تؤرق منامها وتكدر صفوها مشاكلها الحدودية والداخلية؟!! من سيدري عن تلك الأرواح إن ماتت أو حتى احترقت.. قدر الله وما شاء فعل.. لكن فيما يبدوا أنهم عرفوا أن الإيمان لا يكتمل دون أن تنتشل الأيادي الصادقة القلوب الغارقة في الظلام وتعيد الحياة لمن فقد الأمل وظن أنه الهلاك وأنه لا حياة!! أدركوا أن الإنسان أغلى ما تملكه الأوطان، بل أثمن من النحاس الذي تمثل تشيلي ثلث احتياطه في هذا العالم!! لمدة شهرين وأكثر لم تنم سانتياغو العاصمة وتحولت إلى ورشة عمل لا تكل ولا تهدأ. تم التنسيق مع شركات بترولية وترتيب أدوات حفر متطورة لتساعد عملية الاختراق الصعبة.. تم التعاون مع ناسا الغارقة في هموم الحياة فوق المشتري والمريخ لتساهم في نجدة من ابتلعهم باطن الأرض وكأن تشيلي تقول لها.. هنا أولى يا ناسا.. أفيدونا أفادكم الله!! ليتم حفر بئر الأمل لمسافة 700 ووضع كبسولة صنعت خصيصا بعرض 57 سم، وقد جهزت بمجسات لقياس الضغط والحرارة ومثبتات للرأس تحمي الجسم في حالة الإغماء أثناء رحلة الصعود المخيفة!! بل قاموا بإرسال كاميرات مع الأغذية حتى يتمكن كل من حجبته الأقدار من تسجيل بوحه ويومياته في غربة مرة، فلربما صنع أحدهم كتابا سماه «69 يوما تحت الأرض ما بين الحياة والموت».. ليس هذا فحسب، بل أرسلوا لهم أزياء خاصة تحميهم من متغيرات البيئة وحتى يكونوا في أبهى صورة عند ظهورهم أمام الناس وعدسات المصورين..، والله العالم إن كانت هناك قارورة عطر حتى يليق اللقاء بلوعة الاشتياق وعناق مهاجر عائد من رحلة موت محتمة.. حتى النظارة الشمسية لم تسقط سهوا.. كانت من ضمن الترتيبات، فبعد غياب طويل عن سطح الأرض تبقى من الأوليات!! تجربة بألف خاطرة وألف فكرة، هي دعوة سياحية إلى تشيلي التي لم نعرفها يوما علنا تعلمنا كيف يغدو الإنسان أغلى ما تملكه الأوطان، دعوة إلى زيارة بلد ليس على الخريطة المعتادة التي نعرفها ونحفظها عن ظهر قلب!! دعوة للقاء رئيس لم نقابله صدفة ذات يوم لكن بقيت صورته بالخوذة وهو يقف على البئر ليعانق كل من نجى، تسكن القلوب قبل العقول.. وكيف أن النهايات السعيدة ليست حكرا على الأفلام والروايات، وأنها حقيقة في عالم البشر!! كانوا يستخرجون من باطن الأرض نحاسا لكنهم عرفوا أن الإنسان هو الثروة الحقيقة.. قال رئيسهم كنا على يقين أن رجالنا أحياء.. بحثنا عنهم وحددنا مكانهم بدقة وعملنا بإتقان حتى نخرجهم أحياء وفعلنا!! خوذة وبئر وكبسولة وقلوب مخلصة وعزيمة صادقة رسمت ملامح الصورة فمتى يا ترى نتقن إتمام النهايات السعيدة وأن إسدال الستار على مشهد النهاية فن يدار باقتدار.. متى نعرف كيف ننهي مآسينا ونستخرج أحلامنا التي طمرها الخراب والإهمال والبرود.. والفساد!!! شكرا لهذه اللقطة الآسرة الجمال.. شكرا لمنجم من نحاس جعلنا ندرك أن الإنسان ليزال كنزا من ذهب بل من ماس بعد أن كادت مآسينا في شرقنا البائس أن تنسينا وكدنا نفقد الأمل.. دمتم ودامت أوطاننا وشبابها بألف خير..