في حكايات لها، بعض قنوات التلفزيون تذكرني في عرضها لأفلام وثائقية عن الأماكن بقصص مؤرخ قديم اسمه ابن إياس. لو كان المؤرخ ابن إياس حيا يرزق، فربما رفعت قضية ضده، وبذلك ربما أحصل على تعويض أعيش منه ما بقي لي من أيام الحياة. لقد قادني ذلك الرجل في صباي، من خلال كتاب اسمه (بدائع الزهور في وقائع الدهور) هكذا وفق ما أذكره، إلى تشوهات فكرية في استيعاب الموقف التاريخي المجرد من أية إضافات. كان كتاب ابن إياس عن الدهور متوافرا في كثير من مكتبات جدة القديمة، وعندما بدأت أعي قليلا بعد بضع سنوات تخلصت وقتئذ من الكتاب، فقد كان يروي التاريخ بطريقة حكواتي يقص على العامة تراجم الزير وعنترة وغيرهما ممن أزهقا حياة المئات بصرخة واحدة، في عصر لم يكن قد عرف الإغريق وقتئذ ولا الرومان أي تطبيق لنظرية البارود.. كنت مخلصا لقراءة التاريخ، ولكنني للأمانة لم أكن أعرف مطلقا أن التاريخ هو اكتشاف المستقبل بأدوات من الماضي إلا قبل قلائل من السنوات. إنني لا أعرف شيئا عن مدى توافر الوازع التاريخي في ذمة ابن إياس، ومع ذلك فنحن في زمن لا بد فيه للإنسان العادي أن يدرك مدى توافر شيء من هذا الوازع في ذاكرة منتجين ومخرجين يعيدون نتاج الرواية التاريخية بأدواتها البصرية لإمتاع الناس، ولكن من غير هدى ولا يقين ولا دليل مضيء. أحد أصدقائي القدامى هنا في جدة ما زال بكامل أهليته العقلية متيقنا أن أمنا حواء (سيدة البشر جميعا) مدفونة في نفس هذه المدينة.. وعلى مقربة من مقهى كنا من وقت لآخر نركن إليه انتظارا لمجيئهم بجنازة صديق آخر لا علاقة له بالتاريخ.. لقد كانوا لوقت من الزمان يتحدثون عن جدة أنها من أقدم مدن التاريخ.. وللواقع لا أدري من أين جاءوا بهذه الرواية؛ لأنه في ذلك الزمن لم تكن هناك جغرافيا ولا مواقع ولا مدن، وبالكاد عرف الإنسان كيف يدفن إنسانا آخر.. فإذا كانت جدة إلى وقت قريب مثل عش صغير يكاد يطفو ولا يطفو فوق ماء، وإذا أنهمر عليها القليل من ماء السماء فهي مسكينة تتراجع وتكاد لولا رحمة الله أن تضيع فيما هي تحت الماء تغتسل، فكيف لنا إذن أن نعرف أنهم دفنوها هنا وبالذات تحديدا في هذا المكان.. ثم إلى أي زمان يرجع تاريخ المقبرة.. لقد كان هنا ذات مرة ماء مالح ولا شيء غير الماء، فتراجع البحر تاركا من ورائه بحيرة الأربعين، وربما طفت من ورائه يابسة رخوة أيضا.. وربما سوف يغور شيء ما ذات مرة إلى البحر مرة أخرى!! [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 265 مسافة ثم الرسالة