بعض الناس يعتقد متفائلا بأن الانترنت رفعت سقف الحرية أو خلعته، ويصر على أنها جعلت كل شيء مسموح ومتاح، والواقع أن المواقع الالكترونية كلها مسجلة في دول يمكن أن تقطع عنها الماء و «الكهرب»، أو بأقل تقدير تستطيع أي دولة أن تمنع مواطنيها أو المقيمين على أرضها من الدخول إلى مواقع تتحسس منها أو ترفضها، وهو أمر نعرفه جميعا، وهناك منابر للإعلام الالكتروني أو الجديد مسجلة ولها مكاتب أو غرف في دول خليجية، ولا تجد حرجا في مهاجمة أعضائها أو المشتركين فيها لدول جارة في الخليج، أو لتيار ضد تيار في مجتمعاتها، والموقف مفهوم ومقبول لو تعاملت المواقع المذكورة بحيادية مع ما يطرح فيها، ولكنها لا تفعل وتحجب أو تغلق الموضوعات إذا تعرضت أو انتقدت شأنا ما في الدولة التي تصدر منها أو شخصيات محسوبة عليها، بل ولا أضيف جديدا لو قلت بأنها لا تختلف في ممارساتها عن الصحافة المطبوعة والتلفزيون في العالم العربي، وقد يستفاد منها في معرفة شكل العلاقة بين دولة الموقع والدول أو التيارات الأخرى، ولا أنسى بالتأكيد المشرفين ومصالحهم وانتماءاتهم ودورهم المحوري في الشحن أو الدفن. الإعلام مهما اختلف شكله سلاح تعبوي ولازال، وحتى لو تبجح أو تظاهر بالاستقلال فإنه سينكسر ويستسلم في النهاية، ومن يقول غير هذا يغالط نفسه أو يضحك عليها، ومن باب التدليل ذكر غاي تشمان في كتابه صناعة الأخبار (1978) أن محطات الإذاعة والتلفزيون (وأضم إليها الصحافة والانترنت) تملك القدرة على تحويل الخبر الهامشي إلى حدث مهم وضخم، واعتبر أن «المهنية وملحقاتها» حيلة إعلامية ذكية لتحقيق هذه الغاية، وأشار هربرت غانز (1979) إلى أن الصحافيين، في الغالب، لا يهتمون بردود الأفعال الحقيقية للناس ويهملونها، بل ويبررون تصرفاتهم بادعاءات من نوع أنها ردات فعل شاذة ومتحاملة أو مريضة أو لا تمثل رأيا عاما، وبعضهم يتهمها بانتهاك سلطة الصحافة المستقلة، وأشدد على اللفظ الأخير، فالصحافة في نسختها الحالية فعلا مستقلة، ولا علاقة لها بالمجتمع الذي تتوجه إليه، والإثبات ما كتبته جاكي هاريسون (2000) فقد قالت إن الصحافيين البريطانيين في الإذاعة والتلفزيون، لا يراعون رغبات جماهيرهم، أو أنهم لا يلتفتون لها إصلا، ومعظم القراءات العلمية تتفق مع هذا التصور، وتوجد استنتاجات حديثة نسبيا وتعود إلى سنة 2007، تشبه تماما كلام غانز في إصداره القديم، والسابق يحدث في الإعلام الغربي صاحب السقف المرتفع والحريات والديموقراطية، ولنا أن نتصور الوضع في إعلامنا بالقياس والمقارنة. أعود مجددا إلى الانترنت، وأتوقف عند مالاحظته جاين سنغلر (2005) وهذه الملاحظة قد تعجب بعض القراء من جماعة النت، وسنغلر ترى بأن المدونات الالكترونية وما يدخل في حكمها، صريحة وشفافة في محتواها، وما ذكر، في رأيها، يشكل تهديدا وخطرا على القيم والاعتبارات الصحافية في الإعلام المؤسسي، والأصعب أن جاين طلبت من وسائل الإعلام التدخل لضبط عملية التدوين واحتوائها في مساحاتها على الانترنت، وعمليا نجحت بعض المواقع الإخبارية في موضوع الاحتواء وتدخلت في محتوى تعليقات ومشاركات القراء، وبأسلوب يتناسب مع خطها التحريري وولاءاتها، وهذه النقطة تحديدا تناولها زيف رايك (2009) في كلامه عن تعليقات القراء على مواقع الإعلام الجماهيري، والنتيجة أن العلاقة بين الإعلام والجمهور، يحكمها أو يسيطر عليها أو يقرر أولوياتها طرف واحد، وهذا الطرف هو الإعلام وأهله، والمختصون يطلقون على السلوك كلمة «جورنوسنترك». أيضا ما يسمى ب «الصحافة التعاونية» أو «المحتوى التعاوني» لا يبتعد كثيرا، والإعلام يستثمر الصيغ المشار إليها على طريقة ال «تيب اوفز» أو المعلومات الخاصة التي يمكن البناء عليها، وعلى سبيل المثال، قرأت بأن الصحافيين في «بي بي سي» يتعاملون مع هذه المواد مثلما يتم التعامل مع الأخبار الخام أو «العظم» أي أنهم يخضعونها للحذف والتعديل والإضافة أو إعادة الصياغة بالكامل، وبما يضمن إعطاءها قالب المادة الخبرية الصالحة للنشر أو البث، والمعنى أن قيم واعتبارات «بي بي سي» تضبط المسألة وتحرك مسارها، وقد لا يبقى من المشاركة الأصلية إلا ملامح بسيطة فقط أو رؤوس أقلام، وهذا لا يلغي طبعا وجود برامج واعدة تشرف عليها هيئة الإذاعة البريطانية ويفترض أن نستنسخها أو نتعلم منها ك «فيديو نيشن» وهو عبارة عن سجل مصور يحوي أفلاما قصيرة عن تجارب الجماهير وخبراتهم، والموقع يذكرني دائما بالزميل المشاغب عبد المحسن القباني، والصحافيون فيه لا يغلقون البوابة ويحرسونها، كما جرت العادة، وإنما يفتحونها قدر الإمكان، وكذلك موقع آخر اسمه «سكول ريبورت» وفيه قواعد تدريبية وتشجيع لطلاب وطالبات المدارس البريطانية على القيام بأعمال صحافية إبداعية أو كمراسلين لمدارسهم. فيما عدا ذلك لم يتغير الإعلام المؤسسي أو الموصوف بالمستقل، ولازال الصحافيون صحافيين والجمهور جمهورا، وبدون تداخل في الأدوار مثلما يتصور الالكترونيون أو المراقبون لحركة الإعلام الجديد، ومساهمات الجمهور المباشرة أو غير المباشرة في العمل الصحافي، وخصوصا الجماهيري، لازالت مركونة على الهامش ومحكومة بالأمزجة الإعلامية، ولا ينظر إليها، في أحسن الأحوال، إلا باعتبارها مصدرا بين مجموعة أفضل وأصدق من مصادر الأخبار. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 107 مسافة ثم الرسالة