التقيت قبل سنوات بالدكتور أحمد المجدوب رحمه الله، قبل وفاته، وكان يمثل أهم خبير مصري في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، والرجل من النوع الذي يوصف بأنه «تكنوقراط» أي أنه مهني أولا وأخيرا، ولا يميل إلى الانتماءات الأيديولوجية، الرجل أدلى بعدد من التصريحات مثلت صدمة لقطاع كبير من مؤسسات المجتمع، ومفاجأة مذهلة للقوى المتغربة في مصر حينها، وكانت محصلة ما قاله الرجل أن تراجع الإحياء الإسلامي في الجامعات وغيرها كان سببا رئيسيا في انتشار موجات الانحلال الأخلاقي في الجامعات بشكل خاص ومنها إلى بقية المجتمع، وكان سببا مباشرا أيضا في انتشار المخدرات بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ مصر الحديث، وأضاف الرجل أن الإحياء الإسلامي في الجامعة كان يحمي نسيج المجتمع من موجات التغريب والجفاف الروحي وكان يمثل تعويضا إنسانيا عن ظاهرة التفكك الأسري، خاصة في أعقاب هجرات الملايين من أرباب الأسر إلى دول الخليج بحثا عن الرزق وفرص أفضل للعمل، الأمر الذي جعل هناك انفصاما بين أقطاب الأسرة وضعفا في الرقابة على الأبناء، كما أن موجات التغريب العاتية التي نشطت بكثافة في مرحلتي السبعينيات الثمانينيات، جففت ماء الحياة في المجتمع، وجعلت القيم المادية تحكم العلاقات الإنسانية، وكان الإحياء الإسلامي يمثل تعويضا عن هذا الجفاف بضخه روحا جديدة في المجتمع تحمي نضارته، ولو في حدها الأدنى، فلما ضعف الإحياء الإسلامي نسبيا، أدى الأمر إلى جفاف ماء الحياة في المجتمع الجامعي، ومن ثم في المجتمع العام، وانطلقت جموع الشباب المحاصر بكل أنواع التوابل الجنسية في الأفلام والدش والأغاني المصورة والأدب الداعر، انطلقوا في اندفاعة محمومة نحو الانحراف، ورصد الرجل نتائج إحصائية مروعة لهذا التراجع من خلال دراسات وزارة الشؤون الاجتماعية وغيرها من المؤسسات المعنية، منها انتشار ظواهر الزواج العرفي الذي يفتقر إلى أركان الزواج الشرعي ونتج عنه مشكلات اجتماعية خطيرة، وكذلك ظاهرة المخدرات التي انتشرت إلى حد أنه لو نشطت شرطة مكافحة التعاطي في ضبط المتعاطين، فلن تجد سجونا في مصر تستوعب هذه الآلاف المؤلفة من الضحايا، وغالبيتهم العظمى من الجيل الذي يتراوح بين الخامسة عشرة والثلاثين، وما زلت أذكر تقريرا لباحثة أمريكية عن تحولات المجتمع المصري، وكان محصلة البحث أن مصر كانت مؤهلة تماما لتصدعات اجتماعية وطبقية مرعبة، لولا النشاطات الاجتماعية والثقافية والروحية الواسعة للإحياء الديني الإسلامي. والحقيقة أن هذا الذي حدث في نموذج الحالة المصرية يمكن لغيري أن يتعدى به إلى بلدان أخرى ونماذج أخرى، وهو يؤكد لكل ناصح لهذه الأمة، أن الدعوة الإصلاحية الإسلامية بعيدا عن السياسة وصخبها تمثل صمام الأمان للمجتمع، وماء الحياة فيه، وحافظة النضارة في روح أجياله الجديدة، بقدرتها الكبيرة على حفظ منظومة القيم من الانهيار، وقدرتها على تحقيق التواصل بين الأجيال من خلال حماية العرف العام الذي يمثل نسيج المجتمع، وبث روح الصمود في الشخصية الإنسانية وحمايتها من التبعية والانسحاق أمام الغزو الأجنبي ثقافيا كان أو سياسيا أو عسكريا، وهذا الدور الخطير على وجه التحديد لا يملك تقديمه أية فعالية اجتماعية أخرى.