لسنوات طويلة ظللنا نرسم صورة لمصر لا شك أنها في حاجة ماسة اليوم للمراجعة وإعادة البناء، هذا لن يتم إلا بتقويم الصورة التي جرى رسمها سابقاً، خصوصاً مع طرح تساؤلات الهوية المصرية، هل مصر للمصريين، ومصر أولاً، أم أن القومية العربية ما زالت هي الشعار الأنسب منذ الحقبة الناصرية؟، فضلاً عن أن مقولات «الريادة» أصبحت مستهلكة، إضافة إلى تضارب رؤية المواطن لبلده وأولوياته، ناهيك عن وجود مساحة رمادية كبيرة حول علاقة الدولة بالمواطن والمواطن بالدولة، يستتبعها أيضاً علاقة المجتمع بالدولة والدولة بالمجتمع. ما هي مصر؟ مصر ذات تاريخ عريق يبدأ مما قبل التاريخ ويمتد إلى عصور الفراعنة فإلى الحقبة اليونانية الرومانية، فالسيطرة العربية، وصولاً إلى العصر الحديث. عبر هذه القرون لم يفقد البلد شخصيته المميزة عن جيرانه. ففي عصور ما قبل التاريخ كان يعتقد انه لم يكن في مصر حضارة، لكن المكتشفات الأثرية الحديثة تثبت العكس: غابات وأنهار في الصحراء الغربيةوالشرقية، إنسان يروض حيوانات مفترسة، يطوع الطبيعة، ويحصد خيرات الأرض إلى أن تجيء عصور الجفاف، فيروض النهر الذي لم يكن يعيره اهتماماً، ونكتشف محاولات لتسجيل ما يراه فتصبح تصاويره نقلاً لحياته، نعرف منها نمط الحياة بل نكتشف تطور المواد المستخدمة التي صنعها، هكذا كانت حضارته، فكان بحر الرمال الأعظم بحيرة ماء كبيرة، والأفيال والجمال والخيول حيوانات مألوفة له، بل إننا على يقين من بعض مراحل التاريخ وأماكن استقرار هذا الإنسان ومنجزاته واضحة في بعض المراكز الحضارية الباقية آثارها. مصر الفرعونية تاريخها يبدأ بعصر الأسرة صفر، هذه الأسرة التي كانت مجهولة حتى سنوات قريبة، كانت إنجارات هذه الحقبة تبدأ بفلسفة الوجود في عين شمس، فاليونانيون تعلموا الفلسفة من مصر. معطيات المكتشفات الأثرية خلال السنوات الماضية تدعونا إلى دراسة الفكر الفلسفي في مصر الجديدة بصورة مغايرة عما هو شائع الآن، فالمصري القديم كان صاحب إنجارات في مجالات الفلك والرياضيات والطب والزراعة والصيد وصناعة السفن، وابتكار مواد لا حصر لها لم تكن البشرية تعرفها من قبل، لقد ظللنا لسنوات نركز على التاريخ السياسي للفراعنة مع ارتباطه بصورة نمطية واحدة، هي فرعون الظالم لموسى وأهله، بينما كان الفراعنة منذ فترة مبكرة، هم من أسس إدارة نهر النيل عبر مؤسسة الري التي ترعاها الدولة حتى يومنا، ولم يسمح المصري القديم بالاعتداء على النهر وتلويثه، في حين أن الدولة المعاصرة أهملت هذا الأمر، فسقط ركن هام من سطوتها، وتستعيد الدولة هيبتها باحترام النهر. كما كان المصري القديم طبيباً ماهراً وجراحاً بارعاً ومداوياً حاذقاً، فصناعة الطب كانت هم الرواد فيها، والطبيب له مكانة خاصة، هذا ما يجب أن نؤكد عليه، أما في المدن فقد فرضت النظم الإدارية، وابتكرت صناعات كالنسيج وغيرها، وانتهى ذلك بأعظم دولة عرفها التاريخ القديم. وفي الحقبة اليونانية الرومانية، عرضت قوة الشخصية المصرية سطوتها على المحتل، خصوصاً أن أعداداً كبيرة من اليونانيين هاجروا لمصر واستقروا منذ عصر الأسرة 26، بل إن مصر هي التي علمتهم قبل أن يكون لهم سطوة وحضارة، لذا حين دخل الإسكندر مصر، وجد له أرضية من مهاجرين استوعبتهم مصر وصبغتهم بروحها، وترك ذلك التأثير المصري أثره على الإسكندرية وفلسفتها وخرجت الروح المصرية الإغريقية، وكانت أكبر مؤسسة علمية فصلت العلم عن أوهام الديانات الوثنية، فجعلت له قواعد إذ شهدت الإسكندرية عبر مكتبتها القديمة إنجازات وابتكارات غير مسبوقة، جعلت الغرب ينسبها له، ونحن أغفلنا أن هذا إنجاز مصري. وأعظم ما في هذه الحقبة هو تبنى بعض المصريين الديانة المسيحية وتحملهم عبء انتشارها وتضحية الآلاف منهم في سبيل ذلك، وهروب بعضهم للصحراء للحفاظ على ما اعتنقوه، لتخرج المسيحية المصرية منتصرة، لكن لأن لها شخصيتها التي اصطبغت وفق رؤية مصرية خاصة، كانت مغايرة للرؤية الرومانية للدين المسيحي، وظلت هذه محط خلاف بين المسيحيين المصريين والبيزنطيين إلى أن جاء العرب، فصارت المسيحية المصرية ذات اليد العليا. لم يكن العرب غرباء عن مصر حين دخلوها، ولم يكن التوحيد الذي بشر به الإسلام غريباً عن الموروث المصري، فالتوحيد كان بداية الديانة المصرية في الفترة الانتقالية بين عصور ما قبل التاريخ وبداية الأسرة صفر في مصر القديمة. قام العرب في مصر بسياسة إدماج المصريين في الكيان العربي الكبير، فكانت الفسطاط بكنائسها ومساجدها رمزاً لهذا الاندماج الذي استغرق ما يقرب من ثلاثة قرون، فانتشر العرب في أرجاء مصر من جنوب الصعيد حيث الجعافرة حتى الإسكندرية، حين صار المغاربة (تونس، الجزائر، المغرب، موريتانيا) يشكلون غالبية سكانها، نتيجة الحج والتجارة، فشخصية مصر القادرة على الاستيعاب والإدماج جعلت من كل هؤلاء جزءاً منها. وكانت مصر المملوكية هي المعبرة عن عظمة وازدهار مصر العربية، فصارت هي الأمل والمنتهى لكل أبناء الشرق، بما عرفت من تعددية ثقافية داخل حضارتها القوية الصلبة، فها هو الأزهر يُدرس فيه المذاهب الأربعة، في حين اقتصر التدريس في مشرق العالم الإسلامي على المذهب الحنفي وفى مغربه على المذهب المالكي، حتى صار لدينا مدرسة مملوكية مصرية في الطب والعمارة والفنون وغيرها من المنجزات الحضارية التي نعتز بها. غابت مصر عن الفعل الحضاري المؤثر في ظل تبعيتها للدولة العثمانية، وإن كان لديها حراك ميزها عن محيطها، فهناك تساؤلات طرحها المصريون، فثاروا ورفضوا عدداً من ولاة الدولة العثمانية، وقاوموا الأتراك، وحتى قبيل مجيء نابليون لمصر، كان المصريون ينتقدون السلطة بل فرضوا عليها أجندة إصلاحية. إلا أن الفعل الحضاري كان بتولي محمد علي، وأرى أن مذبحة المماليك كانت هي البداية الحقيقية لبناء الدولة المعاصرة في مصر، إذ إن رفض التطور والتحديث يؤدي إلى انسحاق الدول، فالمماليك رفضوا البندقية كسلاح فهزمهم العثمانيون واحتلوا مصر، ورفضوا النظم الحربية الحديثة وتطور حركة المجتمع فلم يكن هناك خيار أمام مشروع الدولة المعاصرة، سوى التخلص منهم، هكذا هو التاريخ وحركته: إما الاستجابة لمعطيات العصر أو الانسحاق تحت عجلته. صعدت مع دولة محمد علي المعاصرة طبقة من المصريين من الصعيد والوجه البحري، سرعان ما شكلوا نخبة جديدة مؤثرة في عصر الخديوي إسماعيل فكان البرلمان والدستور والأحزاب أهم نتائج هذه النخبة، ووضعت مصر مصالحها الإستراتيجية في النيل ومنابعه أولاً، فكان الامتداد المصري إلى أوغندا وتوطيد علاقات مصر بإثيوبيا، وحتى في ظل الاحتلال الإنكليزي كان واصف غالي يلعب دوراً حيوياً في ذلك. حين احتل الإنكليز مصر، لم تشأ النخبة ترك الاحتلال يلعب بمقدرات هذا البلد بل لم تتنازل عن الحكم له بل تشبثت بالحكم وضغط الاحتلال لتنفيذ أجندته، وتراوحت النخبة بين معارض شرس ومراوغ ومفاوض، لكن الجميع وضع مصر أولاً، كان النهوض هدفاً أساسياً لإثبات وجود مصر، فكان مشروع الجامعة، ومقاومة السيطرة الاقتصادية بالرأسمالية الوطنية من رجال أعمال وطنيين وتجسد رغبة عارمة في النمو الاقتصادي عبر مشروع طلعت حرب. جاءت ثورة 23 تموز (يوليو) 1952 لتكون محصلة نهائية لعدم قدرة الاحتلال الإنكليزي والنخبة المصرية آنذاك على إدراك نتائج التطور الذي بدأ وكأنه يثمر، طبقة شابة يافعة جديدة تريد أن تعبر عن وجودها، فتفاعل معها المجتمع المصري وأيدها بسرعة فأعطاها مشروعية السيطرة على السلطة. رأت هذه الطبقة ضرورة أن يكون لها خطابها ومشروعها، فكان الاتحاد والنظام والعمل، ثم مشروع السد العالي والتصنيع، مع تصعيد خطاب القومية العربية، هذا الخطاب الذي اهتز بهزيمة 1967، فكانت حرب 1973 ومعاهدة السلام التي وضعت مصالح مصر العليا قبل أي شيء فرفض المحيط العربي هذا لبعض الوقت حتى استوعب أن إرادة الدولة المصرية ومصالحها يجب أن تسبق المصالح العربية. صاغت مصر شخصيتها على التوازن بين المصلحة المصرية وبين المصلحة العربية، وعلى أحداث توازن نسبي في علاقاتها الدولية، غير أنه في السنوات الأخيرة أدرك المصريون أنهم يستحقون أفضل مما هم عليه اليوم، في ظل تحديات تواجههم نوجزها في: - القلق المستمر والمتنامي من اعتداء إسرائيلي محتمل على سيناء، لذا صار من المحتم إعادة النظر في معاهدة السلام مع إسرائيل، بما يضمن بث الاطمئنان لدى المصريين تجاه إسرائيل، فلا يعقل أن تستمر قيود هذه المعاهدة على مصر بعد هذه السنوات، فإذا كان لدى إسرائيل تحفظاتها فمعنى استمرار هذه التحفظات، هو انعدام لثقة إسرائيل في السلام مع مصر، هذا ما يفسر بصورة أساسية موقف النخبة المصرية من التطبيع. - إن الريادة المصرية في المنطقة العربية لم تعد كما كانت، فالمحيط العربي يتقدم علمياً وتكنولوجياً، فضلاً عن تقدم إسرائيل، لذا فالعلم صار هو الرهان الوحيد أمام مصر لكي تصبح دولة متقدمة متفوقة على غيرها، وهو السبيل لحل الكثير من مشاكلها. - الشخصية المصرية المعاصرة المبنية على مبدأ «الفهلوه» وكسر القانون لم تعد مناسبة للمستقبل، فمبدأ الجدية وحب العمل واختيار المسؤولين طبقاً للكفاءة والجدارة، هي المكونات التي يجب أن تصوغ الشخصية المصرية المعاصرة. - لن يحترمنا الآخر ولن نفرض سطوتنا إلا إذا احترمنا ذاتنا، وعظمنا من قيمة الإنسان المصري من أدنى المستويات إلى أعلاها، فالارتكان إلى التاريخ وحده لن يجدي بل يجب الارتكان إلى الفعل الحضاري الراهن، بتعظيم قيمة العمل والابتكار فيه، فالمهن أي كانت يجب أن تُحترم ويحترم أصحابها، لأن في النهاية المنتج الخاص بكل مهنة يصب لدى كل فرد في الوطن. - لسنوات ظلت الصحراء مرادفة للجفاء والنضوب والفقر، لذا علينا تعظيم قيمة الصحراء مهد حضارة مصر، هذا التعظيم لا بد أن يرتبط ببرامج تنموية في الصحراء الغربية، ووديان الصحراء الشرقيةوسيناء، تقوم على مد شبكات الطرق ومحطات توليد الطاقة الشمسية لخدمة مجتمعات جديدة، مع تعظيم الاستفادة من المياه الجوفية، وإعادة استكشاف موارد الصحراء المصرية سواء من النباتات النادرة أو المواد الخام التي يجب إعادة تصنيعها في مواقعها، مع إقامة تجمعات سكنية جديدة قرى ومدن متكاملة الخدمات الثقافية والتعليمية والترفيهية، فمستقبل مصر في صحرائها. - شخصية مصر شخصية مركبة وليست بسيطة، تتضمن تعددية حضارية موروثة، وتعددية ثقافية منصهرة في أبنائها في صورة المصري الوسطية في كل شيء. هذه الشخصية تحتاج الى جيل جديد يطرح تصوراته ورهاناته، ويقبل تحدي وضع مصر في المكانة التي تستحقها.