إنهم أذكياء بشكل لم نكنه، فصيحون، شياطين أحياناً. هكذا يتحدث الآباء والأمهات عن أبنائهم عموماً، في مرحلة الطفولة الأولى. تنتهي الطفولة، على أعتاب الدراسة الأولى في مدارس مكتظة، مستأجرة ربما، تعلمهم في أول أعوامهم: الرياضيات والقرآن والفقه والعربية والرسم والرياضة والتوحيد والمطالعة والتجويد والعلوم والخط والإنجليزية أحياناً. ومن ثم تموت نبوءة الطفل الذي «كان» عبقرياً. وعلى الذكاء السلام. كتب المفكر العربي جلال أمين في سيرة حياته الرائعة، الصادرة هذا العام تحت عنوان «رحيق العمر»، أن أباه المفكر الإسلامي الكبير أحمد أمين، برغم ضائقته المالية، لم يجد بداً من أن يدخل أبناءه الثلاثة مدرسة أجنبية، لا حكومية، برغم كل ما كانت تحوم حولها من شبهات التبشير والتغريب آن ذاك، حفاظاً، كما قال، ورأى في ما بعد، على نبوغ الأطفال الذين يحوز ويعول. لماذا إذاً، تموت المدارس الحكومية، وتميت في نفس الوقت، هذه الأفواج المؤلفة من ملايين الطلاب. الوالجين أبوابها، ببراءة الطفولة، والخارجين غالباً بشهادات منبسطة، ووجوه غير ذلك. في النظر إلى دارسي أغلب التخصصات الكبرى المميزة لدينا، يفاجأ المرء بقضية أن يكون هؤلاء خريجو المدارس الخاصة لا الحكومية. والحقيقة أن هذا الأمر مشكل، إذ أن الطلاب الذين يجدون سعة من أمرهم، ومتعة في درسهم، وفرحا ومرحاً، يجدونه في المدارس الخاصة، الآتين إليها بنقود آبائهم، دافعين عن كل ما يحصلون. في إزاء ذلك، تجد أنّ المعلمين ينفرون منها، نحو الحكومية، حيث المرتبات الأكثر وفرة، وحيث القدرة أكبر في التفاوض مع الطلبة، وفرض الشخصية والسيطرة، ومد اللسان واليد إن اقتضى الأمر، مما يعتبر «محرماً» في التعليم الخاص غالباً، إلى جانب هذا، أن إدارات التعليم الخاص، لن تأخذ معلما للفرجة، ولا لحصتين في اليوم، إذ ستجعل منه أستاذاً أستاذاً في كل شيء، في التعليم والنظام والتوجيه والتربية والانضباط. ولذا تجد أن غالبية المجتمع السعودي، «تحسد» المعلم الحكومي، على الراتب الوفير، والجهد العملي اليسير، على الإجازات الطويلة، والحصص القصيرة، على هذا الرخاء الواقع فيه. فيما يرى المعلمون أن هذا غير واقع لا حقاً، ولا صدقاً، وأنهم تحت طائلة «الكرف»، أكثر من أي عامل آخر في أي قطاع. أعود لمطلع المقالة، لماذا تموت مواهب أبنائنا «العباقرة» في مدارسنا. إذا استدركنا، أن البيوت لها تأثيراتها أيضاً. ولماذا يرتاع الباحثون، وهم يرصدون كم الرسائل السلبية المعطاة للطفل، في فصل محشو بالفوضى، أو في ثكنة من الطلاب، في مبنى مستأجر، غير مهيأ التهوية ولا التقسيم. ولماذا تحظى المدارس الخاصة، بالملاعب المسورة، والمعامل المطورة، وأنظمة رقمية، لا نسمع بها في المدرسة الحكومية المجاورة، التي يدرس طلاب الصف الرابع فيها في «مطبخ» سابق، رغم أنه لا شارع يفصل بين المدرستين. ولماذا يجد الطالب في المدرسة الخاصة، من يشرح له درسه حتى يفهمه، بينما يسير النظام في المدرسة الحكومية، على مبدأ «يا تلحق .. يا ما تلحق». هذه التساؤلات المطروحة على شفاه العابرين، والرائين إلى هذا المجتمع بصدق، تحتمل الدهشة، والتعجب أكثر، إزاء المزايا التي يجدها المعلمون والتعليم، في الشق الحكومي، من عطاء لا يحد، وتسويات وترقيات وهبات. هذه التساؤلات، إزاء كثرة القرارات الصادرة عن وزارة التربية والتعليم، وإشكالياتها، ورؤاها، وجدواها، أم أن كل ما يجري، جعجة، ولا من طحين. السؤال الأخير: هل يذهب أبناؤنا إلى المدارس ليقتلوا مواهبهم، الرسام بانشغاله بحصة العلوم، والمبرمجة بتعثرها بمادة الخط. والرياضي في حفظ ما تبقى من شعر امرئ القيس. [email protected]