على هامش ندوة عن الأخطاء الطبية، طالعتنا الصحف المحلية الأسبوع الماضي، بإحصائيات ولأول مرة عن الأخطاء الطبية في المملكة، تشير إلى أن هناك خطأ طبيا واحدا لكل مائتي ألف من سكان المملكة، وسواء اقتنعنا بهذا الرقم أم لم نقتنع، إلا أن هذا الرقم صغير جدا بالمقارنة بعدد الأخطاء الطبية التي ترتكب في دول متقدمة تمتلك أفضل أنظمة الرعاية الصحية والتي تصل إلى مئات الألوف في كل عام. وبالرغم من إيجابية توجه المسؤولين في القطاع الصحي لاستخدام لغة الأرقام عند الحديث عن الأخطاء الطبية وجودة الرعاية الصحية، إلا أن قيمة هذه الأرقام ترتبط بدقتها ومصداقيتها. من جانب آخر تشير الإحصائيات أيضا إلى أن هناك 1365 قضية ادعاء بحدوث الأخطاء الطبية، انتهت 168 منها فقط بقرار إدانة. أي أن عدد الأخطاء الطبية التي تصل إلى القضاء فعلا تمثل نسبة ضئيلة جدا من الأخطاء الطبية المرتكبة، وأن ما تثبت الإدانة فيه يمثل نسبة أقل تصل إلى 10 في المائة من إجمالي الإدعاءات. قبل عشر سنوات صدر تقرير عن معهد الطب في الولاياتالمتحدةالأمريكية في سنة 1999 بعنوان (To Err is Human) أو «إن البشر يخطئون»، والذي قدر أن حوالى 44000 إلى 98000 من المرضى يموتون في المستشفيات الأمريكية سنويا نتيجة الأخطاء الطبية. ويشير تقرير ل ABC News إلى أن واحدا من بين 300 مريض تقريبا يتعرضون لخطر الوفاة بسبب خطأ طبي في المستشفيات في الدول المتقدمة، وهي نسبة عالية عند مقارنتها مع حوادث الطيران، إذ إن احتمال التعرض للموت في حادث طيران هو واحد لكل 10 ملايين. ومنذ ذلك الحين، تعتبر المستشفيات أماكن خطرة قد يتعرض فيها المرء لضرر بالغ نتيجة للإهمال والتقصير أو الخطأ غير المقصود. وهناك أنواع عديدة من الأخطاء الطبية والأحداث السلبية التي قد يتعرض لها المرضى في المستشفيات ومنها الأخطاء الدوائية والجراحية، وأخطاء التشخيص، وتعطل الأجهزة والمعدات، والإصابة بالعدوى والالتهابات إضافة إلى تأخر تلقي الرعاية وغيرها. ولا تنحصر الآثار السلبية للأخطاء الطبية في تفاقم المرض أو خسارة الأرواح أو العجز والإعاقة فحسب، ولكن يترتب على الأخطاء الطبية تكاليف مادية تقدر بحوالى 37.6 مليار دولار سنويا، منها 17 مليار دولار ناتجة عن أحداث سلبية أو أخطاء كان بالإمكان تلافي حدوثها. بغض النظر عن التكلفة المالية والبشرية، فإن الأخطاء الطبية تكلف نظم الرعاية الصحية مصداقيتها وثقة المجتمع فيها، ففي بداية القرن العشرين تمتعت المستشفيات في الولاياتالمتحدة بنوع من الحصانة التاريخية بصفتها منظمات خيرية تهدف للنفع العام، في إطار ما يعرف بمبدأ الحصانة الخيرية (Charitable Immunity)، وبعد عدد من قضايا الأخطاء الطبية الشهيرة، ألغت المحاكم الأمريكية مبدأ الحصانة الخيرية، معتبرة المستشفيات مسؤولة عن أي إهمال أو تقصير يعرض المرضى للخطر. وبالرغم من أن المنظمات الصحية في مختلف أنحاء العالم المتقدم تحملت مسؤولية المحافظة على سلامة المرضى وتبذل جهودا كبيرة للوقاية من تعرض المرضى للضرر أثناء تلقيهم الرعاية فيها، إلا أن مشكلة الأخطاء الطبية لدينا لا تزال لا تحظى بالاهتمام المؤسسي المتمثل في الإجراءات والتدابير والأنظمة الوقائية التي تعزز سلامة المرضى، ولا تزال المستشفيات تتعامل مع الأخطاء والأحداث السلبية بأسلوب رد الفعل الذي يختلف من حالة لأخرى، فهناك حالات تحظى باهتمام إعلامي كبير، نجد فيها المستشفيات ومتخذي القرار بطبيعة الحال يتفاعلون بطريقة مختلفة عن الحالات التي لم تجد طريقها إلى وسائل الإعلام. وفي كل حالة يسارع الكتاب للكتابة والصحافيون لتقصي الأسباب، والمسؤولون للتنصل من المسؤولية، أو البحث عن كبش فداء، قد يكون المريض نفسه. وفي حين يسارع مقدمو الرعاية الصحية في العالم من أطباء وغيرهم إلى تأسيس نظم الجودة والسلامة وتطوير الممارسة بشكل مستمر، نجد مقدمي الرعاية عندنا يتجاهلون المشكلة، ولا يعترفون بوجودها ولا يحركون ساكنا للتعامل معها، بل ويطالبون بحصانة تحت مظلة القضاء والقدر.. آن الأوان لبناء ثقافة سلامة المرضى (Patient Safety Culture) في المنظمات الصحية وتأسيس الأنظمة التي تساعد على الوقاية من الأخطاء ورصد حدوثها الفعلي أو الوشيك، حتى وإن لم يترتب عليها أي ضرر للمريض، إذ إن الخطأ يعد فرصة للتعلم من الأخطاء، وتلافيها مستقبلا من أجل رعاية صحية آمنة. * أستاذ الإدارة الصحية المشارك معهد الإدارة العامة.