حزينة أنا اليوم .. تتهاوى أمامي أكاليل الحكايا وتسقط عناقيد الذكريات، دموعي معلقة على جفني عاجزة حتى عن الانهمار ويتسارع نبضي ويتدفق دمي سريعاً مع كل معول ثقيل يهدم حجراً في زاوية. جرول الخضراء كما يذكرها التاريخ، بدأت اليوم تختنق بحزن أهلها وتغرق في ليل طويل .. وصمت أطول. جرول .. آخر فنار بقي صامداً في وجه أنواء المد الحضاري الذي لا ننكره لمصلحة التطور قدماً، ولكننا في المقابل لا نملك القدرة على التوحد معه سلفاً؛ لأننا نرغب بعاطفتنا الإنسانية في أن نرى ذكرياتنا دائماً شاخصة. جرول الحي والحياة لم تعد اليوم تحمل سوى مشاهد الانسحاب نحو مستقبل خالي الوفاض وكفوف أهلها لا تحمل إلا عدسات الكاميرا ليسجلوا كل شيء من عتبات البيوت حتى أخمص الطريق. اليوم من يذهب هناك سيرى النوافذ مشرعة تودع ساكنيها .. والعتبات تتنفس بزفير رحيلهم عنها.. وأحجار البيوت شاحبة ولها أزيز احتضار، يقبلها أهلها ويطبعون عليها لواعج الحنين وليس ذلك بمستغرب فأهل مكة وكما هو معروف عنهم يتعاملون مع الحجارة على أنها كائنات حية تشعر وتتألم، كيف لا وتاريخ مكة وآثارها هي حجارة مقدسة تبدأ من الكعبة وتنتهي بحصيات مزدلفة. أتعلمين يا جرول؟ حتى الشمس رأيتها اليوم تقبل جبينك وهي بيضاء، وجدائلها مبللة لا تحمل بهجة النهار ترقب أهلك وقد تجمعوا حول آلة (التركتور) يرشقونها بحزن صخري وهي تهدم عمرهم شهقة شهقة، رافضين بإصرار الأوفياء أن يتركوك وحيدة تواجهين خيارات مصيرك. متورطة أنا اليوم بي وبحزني يا جرول. فبعد أيام ستمحى خطوات جدي المضيئة نحو المسجد، وستبكيني نافذة تعلقتها لسنوات وأنا أراقبه من خلالها وهو يبصم هذه الخطوات، وستصمت أصوات طفولتنا التي ترددت في الزوايا، ولن تكون هناك زوايا تحن لنا وهي تشيخ وحدها، وستموت ظلال نساء الحي التي كانت تتبعهن عند كل غروب وهن يعدن إلى منازلهن بعد أن قمن بحق الجار ويداولن آخر الأخبار بفضول محبب. يا جرول الفنار .. مساؤك وصباحاتك خير .. ونحن نتجه دونك إلى صخب الأماكن. مساء الحزن على حوانيتك المغلقة .. وصباح فراق يغادرك فيه حتى حمام رب البيت. وداعاً يا جرول. وداعاً ونحن يحدونا إليك شوق لقاء لن يسنح .. وداعاً وأنت تودعينا وتودعك (مكة التاريخ) كما ودعت الشبيكة، والشامية، والقشاشية، والقرارة، والنقا، وسوق الليل، وحارة الباب. وداعاً .. وأهلك يقفون على عتبات منازلهم الخالية وللذكرى استعبار .. والدموع تكلل ذكريات لن يبقى منها بعد اليوم سوى بقايا أحجار كانت في يوم ما ناطقة. هذه كلمات نابضة بعد زيارة أخيرة لجرول عبرت بها إلى الضفة الأخرى من القلب. خلود طلال محمد حسن الحساني