الألم الذي يشعر به الدكتور محمد الرشيد نتيجة الطعنات التي أصابته على مدى السنوات العشر التي قضاها على كرسي وزارة التربية والتعليم، لا يتحمله إلا رجل يقاتل من أجل تطبيق قناعاته العلمية التي يراها صائبة وصحيحة، فيما يعتقد خصومه أن ما فعله يخالف النصوص الشرعية ويصطدم مع العرف والعادات والتقاليد.. حاولت أن أتجنب في حواري مع معاليه قضايا مكررة أشبعها طرحا إثر إعفائه من منصبه منذ خمس سنوات، ففاجأني بإصداره كتيبا يطرح فيه رؤيته الاجتهادية لحقوق المرأة المسلمة في القضايا الخلافية التي تبناها معارضوه، ولخص فيه موقفه وقناعاته. تحدث بكل الشفافية التي يمكن أن تكون استفزازية عن علاقة ظلت ملتهبة وتصادمية ومليئة بالتهم والإسقاطات، وما زالت تثير في داخله ردود فعل صاخبة.. قال إن معركته مستمرة مع معارضيه ليكشف للناس حقيقة مواقفهم الشخصية التي تخالف النصوص الشرعية، وبنوا عليها اجتهاداتهم الخاطئة.. الوزير الذي عمل طباخا وجامع تبرعات ومأذون أنكحة ليتمكن من إكمال دراسته في الولاياتالمتحدة تمنى الإعفاء من منصبه بعد مرور ثماني سنوات، مقتنعا بضرورة تدوير المواقع القيادية، وقد يكون للمرارة التي مرت بها وزارته على مدى عقد من الزمن دورها في ذلك.. نفى علاقته بتحديد رواتب المعلمين، واعترف بقبوله العمل ببند 105 مكرها عليه رغم إجحافه بحق المعلمين، وكشف لأول مرة تفاصيل شح الموارد في وزارته التي ظلت تعتمد على تبرعات المؤسسات الأهلية لتحقيق أهدافها.. حديث ممتلئ بالتفاصيل ويمتد صراحة إلى أبعد مدى. • بصراحة، كيف تلقيت خبر إعفائك وأنت في الكويت؟ - لم أشعر بالأسى ولا بالحزن لإعفائي؛ لأنني قدمت جاهدا ما أستطيع لبلدي، بل إنني أشعر أن عشر سنوات كافية للعطاء في أي منصب، وأتمنى ألا يمكث أي مسؤول إداري في أي عمل أكثر من ثماني إلى عشر سنوات، وثانيا أرى أنه ليس من الصالح أن يمكث الإنسان فترة طويلة خاصة في المؤسسات الخدمية، ولا أتحدث هنا عن الوزارات السيادية فهذه معروفة توجهاتها. وأي فرد يظل بين أمرين؛ إما أنه حقق نجاحا في عمله وأتى بما لديه من أفكار وانتهى، فليؤخذ إلى مكان آخر لعله يبدع فيه إن كانت لديه قدرات قيادية، أو أنه مخفق وبالتالي نتخلص منه، أما المكث الطويل فلا أؤيده على الإطلاق وهذا يقيني الذي أقوله وما زلت أردده. • هل تعتقد أنك كنت ضحية فكر منغلق مثلا أو انفتاح مفاجئ؟ - لا أعتقد أنني كنت ضحية لأي منهما، ولم أكلف نفسي عناء البحث عن الأسباب. • إذن لماذا واجهت حملة شعواء في كل قرار يتعلق بالمرأة في وزارتك؟ - جهل الناس بالشيء أحيانا مخيف، صحيح أنه تخوف ليس في مكانه ولكن هذا هو الواقع، فالرياض لم تفتح فيها مدرسة للبنين إلا بعد أن فتحت في مدن أخرى ومنها المجمعة التي فتحت فيها المدرسة النظامية للبنين عام 1356ه، فيما فتحت في الرياض أول مدرسة عام 1364ه، والسبب أن أهل الرياض عارضوا إنشاء مدرسة للأولاد فما بالك بالبنات. • طبعا ما هو أبعد من ذلك وأكثر تعريضا بك، ما اقترحته بشأن إيجاد فناء للرياضة البدنية في مدارس البنات. - هذه حدثت قبل أن أكون وزيرا، عندما ألقيت كلمة في لقاء بعنوان (تعليم الفتاة.. إلى أين ؟)، وقلت فيها: لا أجد سببا يجعل مدارس البنات تفتقد فناء لممارسة الرياضة البدنية، فنشر في إحدى الصحف أن ما قاله محمد الرشيد يخالف الشريعة الإسلامية، وانهالت علي أشياء استدعت مني الاجتماع بالشيخ عبد العزيز بن باز (رحمه الله) وقلت له كلمتي، فوجد أنهم اعتدوا علي ولم أقل كلاما يخالف الشريعة الإسلامية، وها هي اليوم تبدأ في الظهور والانتشار مع أنني قلتها عام 1411ه. • هل انطلقت شرارة المعارضة من الخارج، أم أنها كانت موجودة في داخل أروقة الوزارة؟ - كلاهما، وأعتقد أن من هاجموني اجتهدوا ولكنهم لا يملكون أي تصور وإلا فبأي حق يخرج خطيب على الناس يوم الجمعة فيقول لهم: إن هذا الذي أسند إليه هذا الأمر لا تبرأ به الذمة ولايؤتمن على عرض، كيف لاأؤتمن على عرض؟، أحد المشايخ يقول في أحد الأيام: جاء هؤلاء الناس معترضين على أن تكون وزيرا للتربية والتعليم لأنك لا تصلح، فقلت لهم: أشهد أنه يصلي، تصور فقط أنني أصلي! • البعض يوجه اللوم لمعاليكم لعدم مقاضاتك لهم أمام الجهات الرسمية؟ - هم أكثر من واحد وقالوا في كلاما لا يقال، بل وصل الأمر إلى درجة أن بعضهم جاؤوا إلى مجلسي الذي كنت أعقده كل يوم سبت وهددوني بأن ألاقي وأعاني ويصيبني أذى إذا فعلت كذا وكذا، ولم أتخذ أي إجراء لأنني شعرت أنه مجرد تهويل، وفي الحقيقة كنت بين خيارين فإما أن يأخذوا جزءا من وقتي واهتمامي والانشغال في مرافعات وقضايا، أو أن احتسب أجري عند الله فماعنده أزكى وأفضل، وهذا هو الموقف الذي اتخذته. • أنت تدافع عن موقفك وقضيتك؟ - قد أكون مخطئا أو مصيبا في موقفي، ولكنني فكرت واتخذت قراري بأنني لا أصرف جزءا من اهتمامي ووقتي في مثل هذه الأمور، وقد قال لي معارفي وأصدقائي إنني أحسنت صنعا. يا أخي ألم ينشروا صورتي في إحدى الصحف وأنا أرفع القرآن وقالوا إن محمد الرشيد يحارب القرآن؟، وهذه الحادثة عندي شهود عليها، فأنا ابتليت ولكنني لم أتوقف وما زلت على إصراري وأفكاري وتصميمي حتى الآن فيما اكتبه، وما زلت أعتقد أن صلاح المؤسسة التعليمية التربوية هو الضمان الوحيد لمستقبل بلادنا وسأستمر على هذا النهج. • توقفوا بعد أن تركت الوزارة؟ - لا والله، كنت في الحرم بعد أن تركت الوزارة فجاءني أحدهم وقال لي: أنت تصلي، أنت تعرف طريق الحرم. قالها لي وعندي شهود على الواقعة. ومن عادتي أن أقضي أول ثلاثة أيام من رمضان في مكةالمكرمة، وكنت أصلي التراويح في سطح المسجد، فإذا بشخص محرم على يساري يسألني: أنت فلان؟، فقلت له: نعم، فقال: أنت تتروح؟، فسألته مندهشا: ولماذا لا أتروح؟، فقال: والله نقل لنا عنك شئ آخر. • كأنك تقول إنهم وقفوا ضدك لأسباب شخصية؟ - ليس عندي أدنى شك، ومما يؤكد مواقفهم الشخصية ضدي في كل ما حدث أن الذين ظلوا يخشون من ضياع اللغة العربية على أبنائنا عندما تركت الوزارة، طلع لهم قرار بعد مغادرتي، بالسماح لبعض المدارس الأهلية أن تدرس أبناءنا بلغة أجنبية وأن تتخذ مناهج أجنبية فلم يحركوا ساكنا، مع أن الوقت الذي شرفت فيه بالعمل في وزارة التربية والتعليم لو علمت الجهات أن طالبا سعوديا التحق بمدرسة أجنبية أمريكية أوفلبينية وغيرها لجاءني اللوم والاحتجاج من كل مكان. أما بشأن الدمج فقد صدر الآن قرار سعدت به كثيرا، وهو أن تحتضن مدارس البنات طلاب الصفوف الدنيا ولكن في فصول مختلفة ليس فيها دمج للبنين والبنات، وبدأت المدارس الأهلية في تطبيقه. • هل هي مقدمات لما هو أبعد؟ - لا علم لي بذلك، أنا ما سلمت من اللي ما قلته فما بالك باللي أقوله. • قرأت لمعاليكم مسودة حديثة بعنوان (المرأة المسلمة بين إنصاف الدين وفهم المغالين) وكأنك ترد فيها على معارضيك؟ - هي مجرد مشاركة مني في إيضاح حقيقة موقف الإسلام من قضايا المرأة. • لماذا المرأة بالذات؟ - لأن هناك «غبش» في الساحة تشوه به الاجتهادات الشخصية لبعض المسلمين صورتها الحقيقية وحقوقها التي أقرها الإسلام، ويحاولون أن يلزموا الآخرين بها. • ألا يجب أن يقوم بهذه الخطوة إنسان متخصص كما يعتقد معاليكم في رؤيته للتعليم، وليس مجرد مجتهد؟ - ومن قال لك إن الدين تحليل وكيمياء، الاجتهاد مفتوح لكل مسلم وأنا أتعبد الله بهذا الأمر وكلامي ليس قطعيا وليس مفروضا على أحد، وإنما هو نتاج اجتهادي في قضايا سبق لي أن كتبتها في مقالات لم أتلق أي اعتراض عليها. • أبرز ما بحثت فيه يا دكتور وما توصلت إليه من نتائج؟ - معياراي اللذان أدعو إليهما دائما؛ أن أصول العقيدة ثابتة، وأن معايير الفضيلة واضحة، ومن ثم فالقول إن تغطية وجه المرأة جزء من حجابها الشرعي غير صحيح، ولقد سمعت من شيوخي: أن باب الذريعة يسد، فقد توجب الأحوال فتحه عندما يكون الفتح سبيلا لتحقيق الصواب وأدرأ للشبهات، وعزل المرأة وإلزامها بتغطية وجهها يفسد علينا كثيرا من المصالح. وإن دية المرأة ليست نصف دية الرجل، بل هي مساوية له تماما وما ثبت للرجال من أحكام يثبت للنساء. كما أن حرمان المرأة من ممارسة الرياضة البدنية المحتشمة غلو ليس من أصول الشريعة ولا ثوابتها. كما أن فصل النساء عن الرجال أمر ممقوت ورأي متعنت يتحمل مسؤوليته من يتشددون في التمسك به دون نص شرعي. • لكنني لم أجد في كتابك مرجعا علميا من المملكة يعتد به؟ - وهل العلم بالدين حصر علينا فقط؟، أنا أريد أن يعرف الناس أن الاجتهادات الخاطئة لا يمكن أن تكون نصا شرعيا في كثير من مناحي حياتنا، وخصوصا ما يختص بالمرأة التي ظلمت كثيرا ومورست عليها مفاهيم خاطئة ليست من الدين في شيء. • البعض انتقد ما تكتبه في مقالاتك حاليا وكأنك تنظر لما عجزت عن تنفيذه كوزير، لماذا؟ - أنا أضع في مكتبي في المنزل الآية الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)، وبإمكانك أن ترجع إلى كلامي قبل أن أكون وزيرا وفي افتتاحيات مجلة المعرفة التي كتبتها وما أكتبه حاليا، فإن وجدت تناقضا بين ما أقول وما أسعى إلى تحقيقه فأنت محق. • هناك من قال إنك خالفت الوصايا البليغة التي أرسلها لك الشيخ عبد العزيز التويجري (رحمه الله) قبل تعيينك وزيرا، وأهمها عدم الحديث بأكثر مما يلزم؟ - العم عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري له مكانة في نفسي مثل والدي وكان الصاحب المقرب له، وهو من ألمع المثقفين وأنا ابن له وألتقي به بشكل شبه يومي، إضافة لما بيننا من نسب فهو عم زوجتي أيضا، ورسالته عزيزة على نفسي وما زلت أحتفظ بها وقد تأكد لي مع مرور الأيام وتوالي المكائد والدسائس ضدي، صحة توقعاته. • قيل إنك حاولت تقليد الدكتور غازي القصيبي في التعاطي مع الإعلام فأحرقت نفسك؟ - أنا لا أبرئ نفسي من أن يكون خطأ، لكن لا أعلم أنني بحثت عن الإعلام ولم أحاول أن أضفي على نفسي بهرجة، وما حدث أنه من الصعب على مروءتي أن يأتيني إعلامي في المناسبات التي أتواجد فيها ويسألني سؤالا يهم الناس ولا أجيب، والمسؤول يظل في ورطة؛ فإن أجاب على الأسئلة قيل إنه غالى إعلاميا، وإن امتنع قيل أين الشفافية والوضوح والصراحة!. • دكتور، الكل يعرف مدى اهتمامك بهذا الجانب وتعيينك الدكتور سعود المصيبيح متحدثا إعلاميا؟ - هذا السؤال الذي أريد أن يفهمه الناس، لأنني أول من أتى بفكرة الإعلام التربوي وهذه قناعة قديمة عندي منذ أن كنت مديرا عاما لمكتب التربية العربي لدول الخليج، فأنا أرى أن جميع مؤسسات مملكتنا لا بد أن تتعاضد في توجه واحد، وقلت إنه لا بد أن تعاضد المؤسسات الإعلامية القيم التي نعلمها في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، بحيث لا ننقض في النهار ويأتي الإعلام يفتل ما نقضنا في نفس اليوم، ولم أنشئ الإعلام التربوي ليدور في فلك مناسبات الوزير وشددت على أن هذا ليس سبب إنشاء الفكرة وليس هدفها. • بعض مشاريعك ظهرت في الإعلام قبل إعلانها؟ - الناس لهم الحق أن يقولوا ما يقولون، لكن والله لم يكن هذا مقصدي، والآن تبعتنا وزارات أخرى بنفس فكرتنا فأصبحنا نرى الإعلام الصحي والأمني وغيرها. • هل صحيح أنك لم تجد الدعم الكافي لتحقيق رؤيتك التطويرية بعد ضم تعليم البنات للوزارة؟ - أنا لا أريد أن أتهم أحدا، ولكن موارد الدولة في الفترة التي استلمت فيها الوزارة كانت متأثرة بضعف إنتاج البترول وتدني قيمة البرميل السعرية، وهذا ما دفعنا للبحث عن أبواب أخرى للتمويل، وكنت أول من فتح باب التبرعات ولجأنا للناس الطيبين لبناء المجمعات التعليمية على حسابهم، وبنيناها بمواصفات أفضل من مواصفات الوزارة، وكنا نطلب تمويل أوجه النشاط من بعض المؤسسات الفردية والتجارية، وسعينا بمفهوم جديد أسميناه الاقتصاد التعليمي، بحيث نستثمر المواقع المميزة لبعض المنشآت المدرسية عن طريق التأجير، إضافة إلى تشجيعنا للتعليم الأهلي لينمو. والحمد لله أن مثل هذه الأمور انفرجت الآن. • انفرجت في فترة وزارتك؟ - بعد أن تركت الوزارة. • هذا يعني أن التسرب الذي حدث في تلك الفترة لقطاعات لا دخل لها بالتعليم كان مسببا؟ - ليس صحيحا ما تقول، فالتسرب الذي تقصده حدث بعد أن غادرت الوزارة. • بصراحة، هل وجدت في الوزارة ما يستحق أن تبتره ولو أوجعك ولم تتمكن منه؟ - لا شك أن الوزارة كبيرة جدا، وأصارحك أكثر فمنسوبو الوزارة يشكلون 60 في المائة من منسوبي الخدمة المدنية في المملكة، وفي التعليم أناس متميزون وصالحون ولا نظلمهم، لكن في المقابل يوجد أناس جاؤوا لكسب العيش ولا يصلحون لرسالة التعليم، وكل عمل إن لم تحبه وتحرص عليه لا يمكن أن تنجح فيه. وكنت أتمنى أن أي مسؤول في التعليم يرى عنصرا غير صالح أن يقوم بدوره لإزاحته. • هذا يعني أنك فشلت في التخلص منهم؟ - لم أستطع لكثرة عددهم أولا، والأمر الثاني أن نظام الخدمة المدنية لدينا عسير ويصعب من خلاله أن تزحزح أي إنسان من عمله. • لكن النظام لا يلام لأنه يحمي حقوق أي موظف؟ - بدون شك، ولكنه من جانب آخر يظل خصما. ودائما ما أقول إن وراء كل أمة عظيمة تربية ومعلم عظيم، وكما قال أحد أبرز علماء التربية (أعطني معلما ناجحا متحمسا لمهنته فاهما فيها، حتى لو يعلم طلابه تحت ظل شجرة فإنه سيفلح). وقد حاولت كل جهدي ألا أجلس في المكتب وقمت بزيارة كل مناطق ومحافظات المملكة، وكنت أدخل على المعلمين وأجتمع معهم وأقول لهم: لا تسموها وظيفة، بل أنتم أهل رسالة وعليكم أن تضحوا من أجلها، وأنتم مؤتمنون على أغلى ما نملك وهم فلذات أكبادنا. صحيح أن المباني والوسائل التعليمية أساسية، ولكن قبل ذلك لا بد من وجود الروح في العملية التعليمية وهو المعلم، خصوصا أن هذا المعلم حاليا لم يعد كما كان في السابق هو مصدر المعرفة الوحيد، فقد ظهر من الوسائل ما جعل دوره محصورا في إطار تسهيل العملية التعليمية وإعطاء المفاتيح للطلاب. • لكنك لم تنصر المعلم الجيد واتخذت عددا من القرارات التي أضرت بالمعلمين وانعكست على حبهم لمهنتهم، وأثرت على المردود العام للرسالة التعليمية؟ - كيف؟ • مثلا تم إقرار بند 105 رسميا في عهدك؟ - هذا البند أقر من قبلي، وعلى العموم أهل الفقه يقولون دائما بالأخذ بأقل الضررين ونحن كنا بين أمرين: إما أن نترك مدارسنا فارغة بدون معلمين لعدم وجود الوظائف التي تشكل وتحدث بالاتفاق بين وزارة الخدمة المدنية ووزارة المالية، أو أن تلجأ الدولة لحل وسط بالاتفاق بين الوزارتين سابقتي الذكر لاستحداث بند مؤقت لحل الأمور، فقل لي بالله أي حل تأخذ به لوكنت أنت الوزير يا بدر؟. • هذا الحل ظلم المعلمين بعدم احتساب خبراتهم العملية؟ - ليس ذنبي، وقد قلت لك إنه بدأ قبل أن أتولى الوزارة ولكنني لا أتبرأ منه، على ماقال أحد الساسة: تهمة لا أنفيها وشرف لا أدعيه. • لماذا لم تتخلصوا من الفائض في مقابل تعيين من يستحق؟ - كنا في فترة نمت فيها المدارس بشكل مذهل في القرى والهجر المتناثرة في جميع قرى المملكة، وكنا أمام كل ضغوط تأتينا من هذه المناطق لنفتح مدرسة، وقد أخذنا من سياسة الدولة أن التعليم ينبغي أن يتاح لكل مواطن سعودي مهما كان موقعه، وأخيرا أخرجنا نظاما على عهدي من مجلس الوزراء بإلزامية التعليم، فلم يكن أمامنا خيار آخر.. على طريقة (مكره أخاك لا بطل). • لم تراعوه في الراتب أيضا؟ - كان يأخذ 4000 ريال تقريبا وهي أحسن له من لا شيء، وهذا المبلغ لم يحدد من قبل الوزارة وإنما باتفاق وزارتي الخدمة المدنية والمالية. • لم يسلم من الظلم أيضا خريج البكالوريوس الذي عينتموه على المستوى الثاني بنصف راتبه، مع أنه يستحق التعيين على المستوى الخامس؟ - أحب أن أوضح لك شيئا، فكما هو معروف أنه قبل إقرار الميزانية يذهب وفد كبير من كل وزارة بما فيها وزارة التربية والتعليم إلى وزارة المالية، فنقدم لهم احتياجاتنا وما نريد من وظائف ومبان وتجهيزات ومن المعلمين وأعدادهم في كل مكان، ولكي نكون منصفين فهم يلاحظون المداخيل المالية والإمكانات المادية، ولكن في معظم الأحيان لا يعتمد لك إلا نصف ما طلبته وأحيانا ثلاثة أرباع ما تطلبه وزارة معينة. • ربما بنوا مواقفهم من شعورهم أن الوزارات تبالغ في مطالبها؟ - هذا الأمر يسري على كل الوزارات وليس وزارة التربية والتعليم فقط، فأنت تطلب مثلا 5000 وظيفة في المستوى كذا وكذا من خريجي كلية المعلمين وكليات التربية، فتفاجأ أنهم أعطوك 200 وظيفة فليس أمامك خيار. وأعتقد أنه لاخير في مسؤول في وزارة التربية والتعليم إذا لم يكن عونا ومدافعا ونصيرا لمن يعملون معه، ويعلم الله أنني معهم ولست ضدهم وأردت أن أرفع معنوياتهم وأملأ نفوسهم وأشجعهم، ولكن ليس كل شيء في يدي. • سميت وزارتك وزارة الأصدقاء من كثرة تكدس زملاء دراستك وأصدقائك؟ - أحيانا الدفاع يصبح ضعفا، ولكن هذا السؤال طرحه علي أحد الصحافيين عندما كنت أحضر اثنينية الشيخ عثمان الصالح فالتفت من حسن حظي لمن حولي وسألت: خضر القرشي من أين أنت؟ فقال: من الطائف، محمد الصائغ أنت من أين، فقال: من أبها، محمد العصيمي من أين أنت؟ قال: من الطائف، وهكذا لم أجد واحدا من مسؤولي الوزارة من أصدقائي وزملاء دراستي، بل إن أولادي فلذات كبدي لم يطأوا مكتبي طيلة السنوات العشر التي قضيتها وزيرا ولو لمجرد الزيارة بسبب منعي لهم، ومن يقل إنني وظفت زملائي فليعطني اسما واحدا. أحدهم كتب مقالا كبيرا بعنوان (عندما سقطت ورقة التوت) ويتهمني بأنني عينت أقاربي، وعلى فكرة فالوزير لا يوظف. • الشيء الذي لم يقله الناس وإنما كان مشاهدا في وزارتك، هو كثرة الوكلاء الذين تم تقليصهم بعد إعفائك؟ - وزارتي تمثل مجموعة وزارات، ولم أحدث إلا وظائف تستحق، فوكالة التطوير التربوي بالمرتبة الخامسة عشرة والتي تقوم بتطوير المناهج والمفاهيم والوسائل والسياسات تحتاج لرجل عبقري، وهناك الوكيل المسؤول عن المباني المدرسية وبشهادة هندسية هل يمكن أن يكون في مرتبة أقل من الخامسة عشرة، أنا لا أريد أن أقول إن هناك وزارات أقل مهمات من وزارة التربية والتعليم وفيها وكلاء أكثر. • لماذا أصررت على تطبيق التجربة اليابانية في مدارسنا والتي فشلت -في رأي الكثيرين- لعدم توافر البيئة المناسبة لها؟ - لعلمك فقد عملنا بحثا عن أجود ما في العالم، ولم نكتف بما وجدناه في الإنترنت، وإنما أرسلنا البعوث لجميع دول العالم مثل كوريا الجنوبية واليابان والولاياتالمتحدة وفنلندا وإسبانيا وغيرها، وأخذنا من كل بلد التجربة الأجدى والمناسبة لنا، فلم نأخذ بالتجربة اليابانية فقط وإنما أشير إليها دائما في أحاديثي، فقال الناس إنني مغرم باليابان، وأنا أرى أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها. واليابان التي خرجت محطمة من الحرب العالمية الثانية انبعثت من جديد في فترة قياسية وأصبحت الدولة الاقتصادية الثانية في العالم بفضل التعليم. • الفارق بيننا وبينهم أن معلمهم له حصانة مثل القاضي ومعلمينا أصبحوا «ملطشة» حتى من طلابهم؟ - لأنه ينتقى بطرق عجيبة وليس كما يحدث عندنا، فكل من ضاقت به الحيلة ولم يجد وظيفة ذهب إلى التعليم، لدرجة أن جاء علينا زمن في يوم من الأيام من توجهنا للسعودة أن يوظف خريجو الزراعة والتجارة وغيرهم معلمين على طريقة من هب ودب. • بمعنى أن معضلتنا التعليمية تكمن في غياب المعلم الجيد؟ - رغم كل ما قلته لك، لكنني أحب أن أقول كلمة حق فلدينا في بلادنا معلمون رائعون وممتازون، ولم أزر مدرسة إلا ووجدت فيها عينة طيبة، وكمثال؛ أتذكر أنني دخلت مدرسة في الليث فوجدت معلما تمنيت لو أنني شاب صغير لأرجع وأدرس عند ذلك المعلم. دخلت مدرسة في الطائف فشاهدت عوض الزايدي وبهرت به وكتبت لمدير التعليم آنذاك طالبا أن يدرب هذا الرجل كل المعلمين لطريقة تعامله مع طلاب الصفوف الأولى التي جعلت كل سكان الطائف آنذاك يتسابقون لإحضار أبنائهم عنده، وقد قمت بعد أن تركت الوزارة بجلبه معي الآن مديرا للمدارس الأهلية التي أديرها الآن. • تفاءل الكثيرون بنفخك الروح في مجلة المعرفة بعد مواتها بأربعين عاما، ولكنهم فوجئوا بأنها ظلت تدور في فلك توجيهي وفرضتم على المدارس شراءها من مبالغ المقاصف؟ - «وإن من عبادي لمن يقاد إلى الجنة بالسلاسل»، أنا قلت لهم أن يقتنوها لا أن يشتروها ليستفيدوا منها، وليس دعاية لأحد. • كيف تقنعنا أن التربية الوطنية يمكن أن تدرس في كتاب؟ - وهل قلت إنها تدرس يا بدر؟، قلت -وأكررها- لم أتخذ هذه الخطوة إلا لتريبة أبناءنا تربية وطنية، وما أسميناه كتابا هو عبارة عن مؤشرات تساعد المعلم كيف يعمل. يا أخي كل بلاد العالم قاطبة عندهم ما يسمونه تربية وطنية، كيف تحب وطنك وتحافظ على مقدراته. • بنيته من خلال أزمة موجودة؟ - ولا أسوأ من كثير من تصرفاتنا التي لا تدل على مواطنة، هؤلاء الذين يخربون الأماكن العامة، وعدم الالتزام بتعليمات المرور، الطلاب الذين يرمون الفضلات في غير مكانها هل لديهم تربية وطنية؟.. • هل شعرت أنك حققت شيئا؟ - أنا لم أخترع العجلة، وللأسف أنه خرج علينا أيضا من يقول إن التربية دينية فقط، فقلت لهم إنها لا تتناقض مع الوضع، ووطننا أحق الأوطان بأن يحب، وقد شرفنا الله فيه بأشياء ليست بسيطة، فهل يصح ألا أدلهم على مفاتيح تجعل غيرتهم على ممتلكات وطنهم بمثل غيرتهم على ممتلكاتهم الشخصية. • لكنكم طبقتموها على البنين وتجاهلتم البنات؟ - حينما أقنعنا وشرحنا أهمية التربية الوطنية، جاء من يقول أدخلها للبنين فقط، لماذا؟ لا أعرف. • لماذا لم تطبق التأمين الطبي على المعلمين والمعلمات وهو المشروع الذي تأخر إلى الآن؟ - كنت أتمنى أن أؤمن عليهم، وسعينا جاهدين سعيا حثيثا مع إحدى الشركات التي قدمت عرضا مغريا للحصول على تأمين طبي متكامل ولكننا فشلنا في إقناع منسوبينا للمشاركة بشكل جماعي ولو بالحد الأدنى، لرغبتهم في المستشفيات الحكومية. • قالوا إن من أفضل الأشياء التي عملتها في المدارس أنك أوقفت بيع المشروبات الغازية ونظمت دور المقاصف في المدارس؟ - فقط؟ هذا على قول من قال شفته يصلي، حسبي على الظلمة بأن ينالوا ما يستحقون. • لكن لم تكن هناك شفافية في عقود، وكمثال عقد الوزارة مع إحدى الشركات على مدارس جدة ومدته عشر سنوات قابلة للتمديد؟ - إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يحتاجه من توهم، اتهموني بأن صاحب الشركة شريك لي. يا سيدي في قصة المقاصف عملنا دراسة اشترك فيها مجموعة من المختصين بمن فيهم الأطباء فوجدوا أن المضار كبيرة من المياه الغازية على أبنائنا، وأننا في أمس الحاجة لتعويدهم على الأكل والشرب المناسب، فقررت إيقافها على الرغم من الضغوط التي جاءتني من أصحاب المصانع لكنني قاومت حفاظا على مصلحة طلابي. أما المقاصف فأعطيت لشركة كبرى في ضوء توصيات لجنة أوكلت إليها هذا الموضوع وأثق في رؤية أفرادها، ووضع أحد الناس تصورا لإنشاء مصانع خصيصا للتغذية المدرسية فحددنا له المواد الغذائية المفيدة وفقا لتقارير الأطباء بحيث لا يكون هناك شيء يطبخ أويسخن في المدارس. وزرنا المصانع التي أحدثها وكلفته الملايين واشترطنا عليه أن يبيعها وأن يعطي جزءا معينا من ريعها للمدرسة لتقيم نشاطاتها أكبر بكثير من الإيجار الذي كانت تأخذه أية مدرسة من خلال متعهدي المقاصف، وبدأت الفكرة تتحول إلى واقع جميل فجاء الذين يظنون بالناس ظن السوء وأن لي مصلحة مع المتعهد، وليتهم يستمرون مع الذين اقترحوا الفكرة لجنة متخصصة وليس محمد الرشيد، وليت الفكرة تتطور فيفتح باب المنافسة لأكثر من طرف. • ما الذي لم تحققه من طموحك كوزير؟ - طموحي ليس له حدود. وكنت أتمنى أن أرى التعليم في بلدي أحسن تعليم في العالم. وللعلم فهناك أشياء تراها الآن تم إقرارها في فترة وزارتي، فالكتب المقررة الجديدة التي نشرتها إحدى الصحف الأسبوع الماضي تم إقرارها قبل أن أغادر، كما قررنا نظام التعليم الثانوي. أنا الذي وقعت عقد تطوير العلوم الطبيعية والرياضيات مع العبيكان بعقد وصلت قيمته لما يقرب من مليار ريال وبعد خمس سنوات من توقيعي بدأوا يطبقونها. نحن من أتى بفكرة تكامل المناهج مثل اللغة العربية بمختلف موادها وتحققت. • لماذا لم تطبقوا تكامل المناهج في المواد الدينية مثلا؟ - كنت أريد ذلك ولكنني لم أتمكن، وما أفلحت فيه هو جمع التجويد مع القرآن وأرجو أن يقوم بالباقي القائمون على التعليم حاليا، اختصارا للوقت وتركيزا للجهد. • قيل إن هناك من أحبطوا شيئا من مشاريعك؟ - لا أريد أن أتحدث بعدما تركت، وقد خرجت راضيا سعيدا مقدرا لقيادتي الرشيدة أن أتاحت لي هذه الفرصة، وأرجو أن يوفقني الله فيما اجتهدت فيه، وأن يعذرني من يرى أنني قصرت في كثير من الأمور. • قبل أن أختم أريد أن يتعرف القراء على سر مناكفاتك الدائمة مع الدكتور حمود البدر؟ - بيننا صداقة متينة وطويلة فهو من الزلفي وأنا من المجمعة وبيننا قصة؛ فعندما كنا سويا في لجنة اختيار المعيدين في جامعة الملك سعود، اعتدنا أن نسأل المعيدين في الثقافة العامة، فسأل الدكتور حمود أحد المتقدمين من أبناء منطقة الباحة: ماذا تعرف عن الزلفي، فقال المعيد: أعرف أنها قرية من قرى المجمعة، فقال له الدكتور حمود: قم ساقط.. فقلت له: أقعد ناجح، فأصبحنا نتندر بهذه القصة دائما.