بينَ يديّ أُمسكُ بديوان شعري لشاعرٍ شاب كتب تجربته مع الحياة وآلامها أدبًا، وخط أبياتهُ وهو يعي وقع الكلمة وقيمتها في الشعور؛ تأملت قصائده فوجدتها تحمل أبجدياته الفنية ورغبته الملحة في إنضاج موهبته / عشقه، وكذلك تحمل قوافيه العذبة المستقاة من ثقافته القرائية لهذا الفن الإنساني الرقيق فهو أولًا المؤهل علميًا في كيفيات صياغة فنه ومدارسه واتجاهات، والمُحب لهذا الفن ثانيًا. هو ديوانهُ الأول وقد حفل بعددٍ من المتوهجات شعرًا وترك بين طيات أوراقه دمعات لم تجف لصدقها وقربها ممن سكبها من أجلهم. أولُ ما وُضِعَتْ عليه يد الذائقة هذا البيت من قصيدة (طيبة الطيبة) هو أبدع صورته ثم وزنه وقفّاه فجئت أنثرهُ من بعد شعر لأُبين مكامن الجمال والشاعرية فيه: كلما جدَ رحيل ٌ شبَ في القلبِ فتيلْ قطعًا لا يٌلامُ المُحِب للمدينة في عشقها بعد امتلائه بحبها، وهنا يُبدي الشاعر أسفه وألمه في كل حالة سَفرْ تضطره الحياة لركوبها ويُصوّر لنا حُرقتهُ مُبتدءًا ب(كلما) تفيد شمولية جميع أسفاره والاستمرارية في الشعور باللوعة (لا يودُ السفر) لانشباب جذوة (الحُب) حب المكان بكل ماضوياته الجميلة في ذاته الشاعرة وحاضرته المُعاشة؛ هُنا الرابط عاطفي وشيج تمتزج معه معاني ألفة ضاربة في أعمق الشاعر نشاركه حبها فكأننا هوَ؛ إذًا هو (الحب) المقرون بالرغبة الصادقة بالبقاء كلُ شمسٍ لم تَطَلع منكِ يغشاها الأُفول.. هذا البيت يتعالق معنىً مع بيت شعري لحسن صيرفي - رحمه الله - حين يقول: أنا إن بدد الزمانُ شُعاعي لن ترَ النور هذه الأرض بعدي والمضمر النسقي هنا في بيت الشاعر الشاب والشاعر الشيخ هو شمس الإسلام التي أشرقت لها الأرض بنور ربها وملأت كوننا الإنساني سكنًا وطمأنينة. غنّت الوُرقُ لكِ نشوى يحيّيها النخيل هنا رمزٌ عريضٌ وجميل يشي بالبيئة الزراعية للمدينة ويحيلنا إلى صورة مزارعها وأوديتها وتكاثر النغم في بساتينها حين التأمل في جملة “غنّت الوُرقُ».. و“يحيّيها النخيل» وقفة: فالمدينة منذ القدم؛ مُنذُ يثرب بن عبيل..؛ عُرفت بأنها واحة زراعية، مما جعلها دائمًا موطنًا للهجرات المختلفة، بل وكانت الزراعة أهم مظاهرها الاستثمارية؛ فقد تهيأت فيها ظروف طبيعية معيْنة على ازدهارها زراعيًا ففيها الموارد المائية من آبار ومن الماء ما تمتلئ به أوديتها التي تقطعها من جميع جهاتها في مواسم المطر كأودية: العقيق، بُطحان، قناة..، ومن الظروف.. تربة على قدر من الخصوبة مستمدة من الرواسب البركانية التي تجرفها السيول من الحرّات المحيطة بها جنوبًا ومن مشرق شمسها الجنوبي؛ فالشاعر هنا ببيتٍ شعرٍ واحد من قصيدة يختصر لنا بعض تضاريس المدينة لينبئ “مثل خبير» بأماكن الزراعة فيها كتلك البقع المتناثرة في قباء وقربان والعوالي والعيون والجُرف والعنابس وعرصات العقيق وغيرها، وما نبت فيها - كما هو معروف - من نخيل باسقات ذات “طلعٍ نضيد».. إن الشعرَ بمعناه العام ليس فنًا إنسانيًا فحسب بل رؤى وحيوات وصور وخيالات وتثقيف.. ومن ذلك تصوير البيئة وتقريب زومها كجزء من الانتماء والحب. أنتِ قُدسٌ يلمسُ القلب َ لهُ سِحرٌ جميل تجلت هنا في روح الشاعر استحضاره لقداسة المكان فأرضها تفوح بالعطر الأبدي من مواطئ سيد الخلق - صلّى الله عليه وسلّم - والقلب - في الشطر أعلاه - يشمل بمعناها المفتوح كل قلبٍ يُسبغ الله - جل في علاه - عليه نور الهُدى وطمأنينة اليقين؛ فبمجرد ملامسة القلب لمعنى سبب علو مكانتها وماضيها وتاريخها المجيد وموقعها في قلوب الناس - إلى يوم الناس هذا - تسعد الروح وتمتلئ حبًا وشوقًا لها. إنَّ رِزْقًا منكِ يُجنى ما لهُ رِزْقٌ مثيل هُنا يُحيلنا الشاعر إلى شيءٍ من القبس النبوي المبارك عن فضائل المدينة... “المدينة خير لهم....».... وأن فيها الضعفين من البركة.. وفي قصيدة (الأربعاء الحزين) يتغنى بشاعرية حانية وعاطفة متشوقة لنبع الحنان ودفء الحياة فيذكر أمهُ بفخرٍ مستحق: والدار دونكِ كالطلول رسومها لكأنها بأريجها فيحاء من كُلِ رُكنٍ طافَ فيهِ خيالُكِ تفِد الشجونُ وكُلُهنَ رجاء ومع قصيدة جاءت بعنوان (خمسٌ وعشرون) كتبها شاعرنا الرحيلي قبل أكثر من تسع سنوات حسب التاريخ الذي ذُيلت به 9/ 1 / 1423ه نتذكر غازي القصيبي - عليه رحمة الله - حيث كتب قصيدةً قريبة منها عنونها ب “حديقة الغروب» حينما وصل الخامسة وستين.. كلتا القصيدتين بدأتا بالسن خمسٌ وعشرين.. خمسٌ وستون.. وانتهيتا بالابتهال إلى المولى - جل شأنه - بطلب المغفرة وكان لهما نفس البحر والوزن والقافية، يقول ماهر: خمسٌ وعشرون بانت دون إخطاري وألهبت في حنيني نار أشعاري خمسٌ وعشرون راحت ما شعرت بها وما بقي من صداها غير أخبارِ ...... ...... يا رب ِ إني أبوء اليومَ معترفًا إني أهاب الردى وسيلهِ الجاري .... أخاف فيه من ذكر هدّام اللذائذ خو فًا يستوي في إعلاني وإسراري خمسٌ وعشرون راحت يا ترى هل بها من صالح الفعل ما يُزجى لغفارِ ويقول غازي في قصيدته : (حديقة الغروب) خمسٌ وستُونَ.. في أجفان إعصارِ أما سئمتَ ارتحالًا أيّها الساري؟ أما مللتَ من الأسفارِ.. ما هدأت إلا وألقتك في وعثاءِ أسفار؟ ..... ..... يا عالم الغيبِ! ذنبي أنتَ تعرفُه وأنت تعلمُ إعلاني.. وإسراري وأنتَ أدرى بإيمانٍ مننتَ به عليَّ.. ما خدشته كل أوزاري أحببتُ لقياكَ.. حسن الظن يشفع لي أيرتُجَى العفو إلاّ عند غفَّارِ؟ الشاعرية والأسلوب الفني في الأبيات أعانت على إظهار القصيد بمظهره اللائق به من عاشق مُحب لهذا الفن يستعمله كلما جابهته الحياة في حزنه وفرحه وسره ونجواه. ونقف على الدرجة الثلاثين من سلم حياة الشاعر مع قصيدته (في وداع الثلاثين)، نشتمُّ في بيتها الأول رائحة أريج أبي الطيب المتنبي؛ فها هو شاعرنا يقول: حان الوداع فكلهم يتأهبُ قلبي وعمري والزمان الطيبُ مثل هذا البيت يشي بأن الشاعر يُكبر في ذاته شاعر العربية المتنبي فلكلمة (الطيبُ) مضمومةَ لذة في اللسان ذات نُطق، ولها وقعٌ آسر عندما تُلقى على المَسمع بجودة، وكثيرًا ما رأينا كيف أن أبا الطيب يستعمل هذا الروي الجميل في فنه: أيامُ عمري صرنَ في ذراتها كيتيمة في القوم ودعها الأبُ. (الأمل الجديد): معزوفة حب أخرى، وقد قدم لها الشاعر بقوله: صارحني بحبه لها.. وكانا يأملانِ أن يكونا زوجين.. يصور لنا الشاعر لسان حال المُحب تجاه من يحبها حين يقول: فإني من هواكِ أكاد أخطو على السُحب.. وأحضنها بزندي قصيدة (يا فاتنًا) للهِ يومٌ كنتِ فيهِ صباحُهُ ومساهُ والشمسَ والشُهُبا تصوير بديع مكثف لاحتواء الفاتن لشاعره ونلمح أن الشاعر جاء ببيت الشعر بطريقة عذبة جميلة تفيد أن الفاتن مستمر في دورة حياته فكرره في يومين متتالين المقصود في هذا التدوير دوام افتتانه به؛ ذلك يتضح لنا حينما نتأمل “صباحهُ.. مساؤهُ (هذانِ نهار ومساء اليوم الآني) ثم “الشمسَ.. الشُهباء (الشمس هنا نهار اليوم الثاني (الشُهباء هنا مساء اليوم الثاني) وتستمر دورة الحب والعشق ثم الشوق..؛ أي استمرارية افتتانه في معشوقهِ وانحصار زمنه فيه لتأثيره وتملكه لوجدانه. وربما لتملكه لكل لحظات وساعات يومه عاطفةً. *** بعد كل هذا نرى أن الشاعر حدد عنوةً لون غلاف الديوان الذي جاء مصبوغًا بأكمله باللون الأسود في سمائهِ قمرٌ يرمز للوحدة والحزن؛ كما أنَ اختيار العنوان ناسب زمنية الليل التي تكثر فيها النجوى الحزينة لخلو الذات من شغل الحياة وانفراد النفس بالشجن هذه كلها جاءت رامزة لأبياته ومضامينه الشعرية المتوهجة والحنين وأن الديوان يقول قبل أن نقرأه وحين التأمل في غلافه بأننا سنجد هنا حرفٌ حزين أو ربما أنَ “ليس هناك ما يبهج» من أخبار حياتهِ سوى موسيقى الشعر العذب للشاعر تصرفنا عن الأحزان التي تأكل القلب حتى لا نشعرها.