غيّب الموت الشاعر ورجل الدولة السعودي الكبير غازي القصيبي، ضمن سلسلة ممتدة من رحيل مبدعين عرب وعالميين. وقد أحس غازي القصيبي -يرحمه الله- بدنو أجله قبل خمس سنوات حين أمسك بالقلم ورثا نفسه عندما كان في الخامسة والستين وتلك من القصائد النادرة للشعراء العرب في رثاء الذات. هكذا إذًا يمكننا أن نضيف مرثية الشاعر غازي القصيبي التي جاءت بعنوان (حديقة الغروب) إلى مرثية مالك بن الريب التميمي لذاته. ولدى الشاعر السوداني الراحل محمد عبدالحي صاحب القصيدة الأشهر بنظرنا في الشعر السوداني ونعني قصيدة (العودة إلى سنار) مراثي لذاته أيضًا في قصائد بمجموعته الشعرية (حديقة الورد الأخيرة). مرثية الدكتور غازي القصيبي لذاته جاءت بعنوان (حديقة الغروب). وفي الوقت الذي نجد فيه شعر محمد عبدالحي مواربًا ومليئًا بالإيحاءات والرمز ويحتاج لدراسات معمقة لفك مغاليقه نجد أن شعر غازي القصيبي صريح. انظر لقول غازي في مفتتح قصيدته: خمس وستون في أجفان إعصار أما سئمت ارتحالًا أيها الساري؟ وكما نرى فالشاعر صرح بعمره وصرح بكثرة أسفاره نظرًا لمهامه العديدة وهذه الأسفار إنما تكون في أجفان إعصار في إشارة لبيت المتنبي: على قلق كأن الريح تحتي تسيرني يمينًا أو شمالًا يخاطب الشاعر نفسه بضمير المخاطب أما كفاك ويصفه بالمسافر ليلًا أيها الساري الشعراء أمثال غازي القصيبي وعبدالحي ينظرون إلى الحياة باعتبارها حديقة وبستانًا يقطفون منه الثمار ويتفيئون بظله ويتخذونه مكانًا للسمار والتأمل وكتابة الأشعار لكن أيضًا مكانًا للعمل ومساعدة الآخرين ومنافحة الخصوم حتى إذا تقدم الشاعر في العمر أو أصابه داء عضال كما في حالات الشعراء الثلاثة مالك بن الريب التميمي (أيام فتح خراسان) ومحمد عبدالحي السوداني (الذي توفي عام 1989م بالسودان) وغازي القصيبي تحدث كل بطريقته في كتابة القصيدة عن انحسار النضار عن هذه الحديقة. في ديوان العرب منذ التاريخ الباكر للشعر العربي يوجد مكان للشعراء الذين تحدثوا عن الموت لكن الذين رثوا ذواتهم قبل موتها فقليلون وها هو غازي القصيبي ينضم إليهم فهو دائمًا كان في حياته الإبداعية به توق للتفرد وحتى عندما يعمل الدكتور غازي القصيبي إداريًا أو دبلوماسيًا فكأنما يكتب الشعر. ولقد أوصله هذا التوق لأن يرثي نفسه. قصيدة مالك بن الرّيب التميمي الذي رثى فيها نفسه كتبها بعد أن لدغته حية في الصحراء فشعر بدنو أجله وهو كان مع أمير خراسان ومعهما راكب آخر في طريقهما لغزوة فيما يقول الرواة فقال حين رأى سهيلًا يتلألأ في عمق السماء الصافية: فيا صاحبي رجلي أرفعاني لأنه يقر لعيني أن سهيلًا بدا ليا وفي القصيدة نفسها يتذكر مالك أهله ويتخيل الصورة التي يبكونه بها يتخيل كيف تبكي الأم والخالة والأخوات ويفرد بعبارة بارعة صورة للباكية التي تهيج الباكيات الأخريات إنها الزوجة الحبيبة التي يصور الشاعر بضربة فرشاة واحدة مقدار حبها له -الصورة من منظورها هي- فهو على يقين من هذا الحب ويبدو لنا من هذه الصورة أن فجيعة الزوجة في فقده أكبر من فجيعة الأم والخالة والأخوات. وبالرمل منّا نسوة لو شَهِدْنَني بَكينَ وفَدَّين الطبيبَ المُداويا فمنهنّ أمي وابنتايَ وخالتي وباكيةٌ أخرى تَهيجُ البواكيا وما كان عهدُ الرمل عندي وأهلِهِ ذميمًا ولا ودّعتُ بالرمل قالِيا قصيدة غازي القصيبي لم تكن بمثل هذا القدر من تأجج العاطفة فقد كتبها وهو في الخامسة والستين أي قبل خمس سنوات تقريبًا من وفاته كتبها بعقلانية شديدة وبتقبل للموت كشف لنا عن إيمان الشاعر غازي العميق وتقبله للقضاء والقدر. لكن الشاعر مالك بن الريب لم يكن يتقبل الموت بالكيفية التي سنراها في قصيدة غازي كان شابًا حين لدغته الحية تذكّرتُ مَنْ يبكي علىَّ فلم أجدْ سوى السيفِ والرمح الرُّدينيِّ باكيا وأشقرَ محبوكًا يجرُّ عِنانه إلى الماء لم يترك له الموتُ ساقيا ولكنْ بأطرف (السُّمَيْنَةِ) نسوةٌ عزيزٌ علىهنَّ العشيةَ ما بيا فيا صاحبا إما عرضتَ فبلِغًا بني مازن والرَّيب أن لا تلاقيا وعرِّ قَلوصي في الرِّكاب فإنها سَتَفلِقُ أكبادًا وتُبكي بواكيا مرثية الدكتور غازي القصيبي تنقسم إلى خمسة أقسام يمكن أن نصنفها هكذا: (الذات، رفيقة الدرب، البنت، البلد، ثم توجهه أخيرًا إلى الله متضرعًا وهي المخاطبة الخاشعة المتسمة بإيمان عميق. خاطب في كل قسم منها مخاطبًا وبدأ هذه المخاطبات بمخاطبة الذات في مفتتح القصيدة فقال لها: أما مللت يا نفس من الأسفار؟ ومن الأعداء وما برحوا (يحاورونك بالكبريت والنار)؟ أما ترين نقصان الصحب بالموت فلم تبق للشاعر إلا الذكرى وتجيب نفس الشاعر فتقول ردًا على تساؤلاته بلى اكتفيت وأضناني السرى وشكا قلبي العناء ولكن تلك أقداري أما رفيقة الدرب فيقول لها: أتمنى لو كانت لي أعمار بدلًا عن عمر واحد فأفدي بها عينيك أنت منحتني كنوز الحب وأنا كنت لولا نداك الجائع العاري.. ويختتم قصيدته إلى رفيقة دربه قائلًا: ماذا اقول وددت البحر قافيتي والغيم محبرتي والأفق أشعاري فتأمل كيف تحس بالأثر الخافت لقوله تعالى (قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي). الشاعر يوصي رفيقة الدرب: وإن مضيت فقولي لم يكن بطلًًا لكنه لم يقبّل جبهة العار أما البنت فيخاطبها بحنو عظيم لكنه يقول لها إن حديقة عمره باتت في الغروب فالطير هاجر والأغصان شاحبة ويعبر الشاعر عن قمة الحنو على بنته يارا فيما يشبه الزجر لكنه ليس بزجر بل تأكيد بقطعية تامة بأنه ماض إلى الموت: لا تتبعيني ! دعيني! واقرأي كتبي فبين أوراقها تلقاك أخباري ويوصي الشاعر بنته بنفس الكيفية ثم ينتقل للجزء الرابع الذي خصصه للوطن فخاطبه مباشرة ويا بلادًا نذرت العمر، زهرته لعزها! دمت! إني حان إبحاري وأوصى الوطن أيضا واظهر حبه له الذي هو بلا حدود. وفي المقطع الخامس من القصيدة خاطب الشاعر عالم الغيب فقال: أحببت لقياك. حسن الظن يشفع لي أيرتجى العفو إلا عند غفار؟ هكذا إذًا كان يستعد الشاعر غازي القصيبي قبل خمس سنوات وتزيد لرحيله ولذا فموته الذي فاجأ الكثيرين من مريديه لم يفاجئه هو فقد تقبله بسكينة تامة. يرحمه الله.