مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة يرسخ حضوره في أجندة الأنشطة والتظاهرات العالمية، وهو يوطن مبكرا حوارات ثقافية ومعرفية مع الشرق والغرب ويعمق بشكل متوال في كل دوراته مفهوم التراث واستلهامه لصياغة خطاب للثقافة السعودية بوعيها المعرفي المواكب للعالم الجديد في زمن فن صناعة الإعلام والثقافة الكونية. الجميع يترقب الجنادرية بما تنطوي عليه من فعاليات ومناشط متعددة ومتجددة تقع في تماس مباشر مع حاجات ورغبات المواطنين بمختلف أطيافهم وفئاتهم المجتمعية والعمرية. اللافت جدا أن من بواكير مفاجآت هذا العام وأجملها عودة شخصية إبداعية وثقافية واضحة القسمات والملامح ومتجذرة في أخصب حقول المعرفة وهو شاعر الإبداع والإمتاع (ساري) الحاضر الغائب الذي استعاده مهرجان الجنادرية من خضم وضخامة الأعباء والمسؤوليات ليعيد للشعر وهج الثمانينيات الحقيقي. أخشى أن تكون عودة مؤقتة (فقط) لكتابة أوبريت الافتتاح الكبير بوصفه عملا وطنيا كبيرا يرعاه الملك ويحضره زعماء وشخصيات عالمية وينقل لكل أصقاع الدنيا، لكننا نؤمل أن تحاصره الأوساط الثقافية والمعرفية بضرورة الاستمرار، ومؤكد أن من عرف بكل فروسيات النبل وأصالة التعامل لن يخذل محبيه ومتابعيه ومن تشرفوا مثلي بمعاصرته زمنيا. لم يكن (ساري) شاعرا فحسب، بل تزامنت خطواته في الشعر مع خطوات حضوره اللافت كمثقف وصاحب رأي واضح ورؤية معرفية تعكس ما يتوافره من تأسيس ثقافي، وقد بدأ مسيرته الكتابية في الثمانينيات الميلادية في صحيفة الجزيرة بمقالتة الأسبوعية (عواطف وعواصف)، ثم كتب لسنوات في مجلة «المجلة» تحت زاوية «عكس التيار»، كما كتب في عدة صحف ومجلات عربية مثل «الصياد» اللبنانية، و«الناقد» التي كانت تصدر عن دار «رياض نجيب الريس» وله مقالات سياسية وثقافية في صفحة «الرأي» في صحيفة «الشرق الأوسط» وتميزت كتاباته بالحس الوطني في الدفاع عن قضايا المملكة، وقد أحدثت مقالاته أصداء كبيرة في الأوساط الثقافية وله من المؤلفات كتاب في القانون بعنوان «الوجيز في القانون المقارن» وديوان شعر «ساري»، وهو خريج جامعة الملك سعود في الرياض قسم قانون (أول دفعة من خريجي القانون في المملكة) وحاصل على درجتي ماجستير في العلوم السياسية من جامعة كاليفورنيا، وماجستير في التشريع الجنائي الإسلامي من جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، وعشرات الدورات في مختلف التخصصات القيادية وله أيضا العديد من القصائد المغناة للوطن وغيره. غياب طويل أمضيت وقتا طويلا في البحث عبر روابط المحرك العالمي «قوقل» استنفذت فيها كل وسائل التقصي عن قامة ثقافية ومعرفية وقيادية بحجم (ساري) وبحثت باسمه الصريح فلم أجد أكثر من المعلومات أعلاه وهي موجزة لحد الخلل حتى في توصيف الجانب التعريفي فكانت مفاجأة مدهشة وكبيرة السلبية. من يصدق فداحة هذا الغياب الكبير ؟! نعم وجدت مئات الأسئلة المعلقة دون جواب في الكثير من المواقع الإلكترونية ربما لم يحركها إلا الموجز الخبري العابر والسريع كضوء ثقاب عن أوبريت مهرجان الجنادرية لهذا العام! من المسؤول عن هذا التعتيم؟! ونحن نعيش في غابة من وسائط الاتصال والتفجر المعرفي للثقافة الكونية واختراق المعلومة لحاجز الزمن على رقائق المعدن وبسرعة الثواني. كيف نقبل هذا التغييب لأبرز نجوم شبان الثقافة في أوج مراحلها مطلع الثمانينيات؟!. لم أتعود استدعاء الماضي ومحاكمته في أي شأن طيلة عملي ربع قرن في الإعلام عبر كل مواقع المسؤولية التي شغلتها، لكن نحن إزاء تقصير جماعي ومتقادم يجترح فينا وعي المسؤولية بكل تأكيد ولن أزيد. لابد أن نعترف بشرعية هذه التساؤلات وتعليقها على مشانق الضوء أن جازت هذه التسمية؛ لأن كل منتج إبداعي يشكل أرثا جمعيا لا ينتهي بالفردي ولا يلغي حقوق الملكية الفكرية. هل من اللائق أن نسكت عن تغييب إبداعات (ساري) في مواقع التداول المعرفي وتعريف الأجيال الحاضرة به ؟! وهو يشكل ملمحا مهما لمرحلة التشكل المعرفي والبداية الحقيقية لتأثير الصحافة المحلية في الذهنية الشابة، خاصة طلاب وطالبات الجامعات في تلك الفترة. أتذكر جيدا في مطلع الثمانينيات الميلادية كيف كنا نترقب أسبوعيات (عواطف وعواصف) تعلوها صورة شاب لافت الوسامة والنجومية الثقافية وتصدر كل يوم ثلاثاء وتتلقفها جموع كثيرة من الجنسين لجيل جديد يتشكل للتو في حقول المعرفة ويجد في هذه المقالات ترسيخا حقيقيا لمفهوم المثاقفة الفاعلة. ربما ساهمت مسؤوليات (ساري) المتوالية في تغييبه عن المشاركة في المشهد الثقافي وقد نتقبل ذلك لفترة زمنية، لكن أن يستمر الغياب ويصادر كذلك الحق الجمعي في توثيقه ونشره والتعاطي معه فهو ما يحفز كتابة كهذه للظهور. نعم هو يتصدر مهمات جسيمة وقيادية، لكن والده رحمه الله بما هو عليه أيضا كشخصية عامة ومتعدد المسؤوليات ومع ذلك أثرى المكتبة العربية بعشرات الإصدارات المعرفية والفكرية وتواصل مع كل المثقفين ووسائل الإعلام بشكل مباشر وعبر كل وسائط الاتصال. هل تصادر الوظيفة السياسية مهما كبرت شخصية المبدع وهويته الفكرية والثقافية وتواصله مع المتلقي بكل مستوياته وحقهم بالتواصل معه؟! هل ستتهم وسائل الإعلام والمثقفين بمجاملته؟! ولدرء تهمة افتراضية كهذه يفضل المثقف الابتعاد لأنه المسؤول الكبير!! ثم نواصل نحن كمهتمين السكوت وهو هنا (تهمة أكبر) للسبب نفسه؟ لا تغيب عن الذاكرة أسماء كبيرة لمسؤولين كبار تنشر أعمالهم الإبداعية في مختلف المجالات مثل الدكتور غازي القصيبي، بل وحتى رؤساء دول مثل الشيخ زيد آل نهيان يغني قصائده الغزلية فنانون وفنانات وباسمه الصريح رحمه الله وحتى الدعاة الكبار، وهم لا يغيبون عن السمع والبصر في كل وسائط الاتصال بأنواعها لم يكفهم ذلك عن تمرير قصائدهم عبر حناجر الفنانين. من هنا ليسمح لنا المبدع الكبير (ساري) بحقنا في التساؤل عنه وبشرعية أسئلة كهذه وأن نعتبر جنادرية هذه العام فرصة مواتية لطروحات كهذه. تطلعات عاجلة نتطلع وبأمل كبير أن تتم المبادرة العاجلة بتوفير كل ما يمكن من أعمال (ساري) الأدبية والشعرية على الشبكة العنكبوتية وهنا نأمل من (ساري) أن يتيح المجال لمن يرى بتتبع موجدات أرشيفه الشخصي، ومؤكد أن نتاج تلك المرحلة محفوظ عنده ولو بوضعها الورقي المنشورة عليه وتفعيلها في كل وسائط الاتصال، مايجعلها لاحقا في متناول النقاد والمهتمين.