التكرار الملل، الوجوه المحفوظة، الندوات “الباردة”، ضعف الحضور، وغير ذلك من المناقص رمى بها بعض المثقفين مهرجان الجنادرية، مقترحين جملة من الآراء لتجاوزها ممثلة في إشراك الجمهور والمثقفين عبر استبانة إلكترونية لاستطلاع آمالهم وطموحاتهم، وإنشاء فندق داخل الجنادرية لتجاوز أزمة ضعف الحضور، وإدخال التقنية العصرية الجديدة في الفعاليات لاجتذاب الشباب، وغير ذلك من المقترحات المبثوثة في سياق هذا التحقيق حول برامج الجنادرية ومدى قدرتها على المواكبة والتطور.. توفير المناخ الفكري الدكتورة عائشة الحكمي تقول: لا نستطيع بالدقة المطلوبة تقييم نسبة نجاح دور مهرجان الجنادرية ثقافيًّا بصورة عشوائية؛ إذ يحتاج إلى دراسة ترصد المردود الإيجابي محليًا وعربيًّا، لكن بصورة بديهية بالتأكيد حقق المهرجان الغايات التي أقيم من أجلها من ذلك تعميق الصورة المشرقة لبلادنا وتمريرها عبر محطات ترفيهية إلى المواطن والمقيم وفي مقدمتهم الشباب والناشئة، لقد كان ومازال تظاهرة منوعة يكفي أنه يحرص على المنافسة في العمل على إنجاح. كل أركانه كل عام يبحث القائمون عليه إلى جديد يقدم للمتابعة والثقافة والمتعة ولو كان ضعيف التأثير أو الصدى للمسنا انكماشًا وتسربًا في روّاد المهرجان، وكذلك سيظهر إمامنا التكرار الممل لأساليب تنفيذ الأفكار. وتضيف الحكمي: والواقع أن أهم ميزة هو توفير مناخ فكري حيوي للحاضرين والمشاركين يتحاورون بعفوية وحرية في القضايا المثارة حسب ما نتابع من خلال المشاركين فيه والمهتمين بمتابعة الفعاليات، وهناك سعي حثيث لاجتذاب الجماهير بشتى الطرق، وكذلك حرص الجمهور على المتابعة، لكن ليس بمستوى السنوات العشر الأولى، وليس العيب في الجديد والتنظيم وإنما كثرة المهرجانات والمؤتمرات في الداخل والخارج وانشغال الناس بأمور كثيرة تختلف عن ذي قبل، أما الندوات والمحاضرات المطروحة فهي قريبة من ثقافة المجتمع الذي يخطط لها المثقف السعودي الذي يضعها في جدول مثقف سعودي، وبالتالي ستكون مناسبة، لكن كما قلنا كثرة الفعاليات الثقافية وتزامنها مع الجنادرية جعل موضوعات الندوات تبدو مكررة. خاصة حين تزامن المهرجان مع معرض الكتاب وفعالياته. واللجان المنظمة تحرص على استقطاب كل المفكرين والمثقفين المميزين على مستوى العالم ممن لهم أطروحات معتدلة ونافذة؛ أتذكر منهم أسامة الباز. وتمضي الحكمي في حديثها مقرظة المهرجان بقولها: إن القضايا التي يطرحها مهرجان الجنادرية قضايا قوية ومهمة على المستوى العالمي مثل “ندوة فلسطين” وحوار الحضارات، نبذ الكراهية بين الشعوب، وتوضيح الوسطية في الإسلام، وغير ذلك، لذلك أتمنى أن يقام المهرجان كل عامين. ضعف الحضور وبمثلما أوضحت الحكمي الجوانب المشرقة للجنادرية ينحو الدكتور صالح الزهراني ذات المنحى بقوله: هذه التظاهرة الثقافية جيدة، ولقد حضرت ثلاث دورات للمهرجان، وكانت تلك الفعاليات ممتازة، ولكن الحضور كان ضعيفًا، حتى الضيوف موجودون في الفندق، ولا يكلفون أنفسهم عبء الحضور، ويمكن التغلب على المشكلة بإيجاد فندق الضيوف داخل الجنادرية بدلاً من قاعة التضامن الإسلامي. وتطوير قاعات للمحاضرات، ومسارح للعروض، والأمسيات الشعرية، والألعاب الشعبية والعروض البصرية. كما أن لجنة المشورة تقترح عددًا من الموضوعات، وهي جيدة. ويمضي الزهراني في حديثه مضيفًا: مشكلتنا أننا صناع أزمات، وثقافة الأزمة لدينا نعتقد أنها تخرجنا من المسؤولية، وهذا وهم من الأوهام، وكثير من الناس ينتقد وهو في بيته، ويرى أن كل نشاطات المهرجان تقليدية والأسماء مكررة، ولو دعي لاختلفت النتيجة 100%. ولاشك أن كثيرًا من الأسماء هي أسماء فاعلة، وما لم يرق لي سيروق لغيري، والأحكام العامة صناعة العامة، والمشكلة ليست في القضايا، المشكلة في المعالجة ومنهجية النظر، لن يكتشفوا قضايا اجتماعية من كوكب المريخ، القضايا مطروحة على قارعة الطريق، ولكن من يقنع الديك أنه ديك وليس قمحة كما في نكتة الأشقاء السودانيين. ويجب أن نقدر قيمة العمل، وأن يكون هناك موقع تشاوري للمهرجان، وأن يكون هناك فترة طويلة للإعداد، ودقة في التنفيذ، ومهارة في التواصل، ونقل لما يحدث مباشرة حتى تعم الفائدة. تكرار وخفوت وخلافًا لسابقيه يرى الدكتور صالح زياد أستاذ النقد بجامعة الملك سعود أن المهرجان أصبح مكررًا ويرز ذلك في سياق قوله: حين ابتدأ مهرجان الجنادرية كان حدثًا باهرًا في كل تفاصيله. ولا شك أن جزءًا من ذلك الإبهار يعود إلى جِدَّته، وإلى طبيعة الزمن الذي ظهر فيه، فلم تكن دهشة الناس آنذاك بفعاليات ثقافية من هذا القبيل قد انحسرت نتيجة ثورة الاتصالات وتعدد وسائط المشاهدة والقراءة وظهور مشاغل مختلفة واهتمامات مغايرة لدى الناس. الآن تحول المهرجان إلى حدث مألوف ومعتاد ومكرور، وأصبح المرء يعتقد أن ما رآه العام الماضي وما قبله سيشاهده في هذا العام، حتى الوجوه المدعوة أصبح عدد منها مألوفًا، وأصبحت سحناتها دائمًا تذكرك بالجنادرية. اللجنة التنظيمية – كما يبدو - تعتقد أن هذا التكرار هو هُوِيَّة المهرجان، يعني هو هكذا تريده أو لا تريده، هذه مشكلتك أنت أيها المتابع!! لذلك لم تر أن التغيير والتطوير الجذري للفكرة ملح، وأن المهرجان سيموت إن لم نصله بحرارة الواقع الذي يمور بالحركة. وفي اعتقادي أن رهن المهرجان إلى لجنة مشورة ثابتة هو أحد أسباب ما يتسم به من تكرار وخفوت. وأعتقد أن إشراك أسماء نوعية جديدة كل عام بحيث تسهم في اقتراح الأسماء والموضوعات، هو ما يمكن أن يبث في المهرجان روح الاختلاف والتطور. ويختم زيّاد بقوله: لكن الذي ينبغي أن نؤكد عليه دومًا هو أن المهرجان احتفالية وطنية بمعاني الوحدة والائتلاف، وأنه إشهاد عربي وعالمي على مجدنا الوطني وروحنا السعودي النابض بالمعاني الوطنية؛ فقط علينا أن نبحث باستمرار عمّا يعمّق هذا الوعي، وإذا نسينا هذا المهرجان وتضاءلت حرارة الإحساس به فإن ذلك مما يشعرني بالحزن. إشراك القطاع الخاص وقريبًا من رؤية زيّاد يقول رئيس أدبي الدمام جبير المليحان: إن الجنادرية في بدايتها كانت عيدًا ثقافيًّا يضج بألوان الفرح والتنوع والجديد والمعاصر والمغاير؛ لكنها بدأت تنتكس مذ أطّرت في موضوعات مكررة ومعروفة. الثقافة تنوع واتساع ومغايرة، وهذا ما أخذت الجنادرية تنأى عنه رويدًا رويدًا في كل موسم حتى كدنا أن نقول إن شموعها قد انطفأت؛ لكنها أخذت تدير عجلة التكرار الممل فيما بعد، مما جعل أحلام المجتمع وتطلعاته تسبقها بمسافات طويلة جدًّا. بل لقد صدّ عنها من يرغب في جديد أو مفيد وأصبحت تراثًا معروفًا فقط. والمأمول هو ألا تتكرر الأسماء. وأن تأتي دائمًا أسماء جديدة وفاعلة، ولها حضورها الثقافي والفني والأدبي والمعرفي. لكن الجنادرية حوصرت بفكر واحد وحيد، وأقحمت في مسارات الطرح البارد، وأبعد من أجندتها الكثير من الفنون والآداب، وانحصر ما تقدمه بذائقة مجموعة من المشرفين الذي لا يعرفون غير ما يريدون هم فقط. دون الالتفات إلى اتساع رقعة الذوق والفن والرؤية لمجتمع يطرح الكثير من أسئلة المعرفة، ويتعطش لكل جديد. فالجنادرية ملك للناس، وتمثّل ما لديهم، وهي ليست محصورة بفئة محددة أو أتجاه واحد، وبالتالي يفترض أن تمثّل كل شرائح الفن والأدب والرجل والمرأة والصغير والكبير، وإلا لا يجوز أن يطلق عليها مهرجان لتراث وثقافة المملكة، واقترح إشراك الجميع من ذوي الاختصاص؛ أينها من الأندية الأدبية، أينها من أفرع جمعية الثقافة والفنون، والجامعات، والفرق الشعبية، والفنون التشكيلية، والمسرح، والغناء والموسيقى، والسينما. والأمثال الشعبية والموروث الكبير من الفن والأدب الشعبي. ويمضي المليحان مضيفًا: اقترح أن يكون موسم الجنادرية موسمًا شاملاً في كل منطقة من مناطق المملكة، يعقد في وقت واحد وفي كل منطقة، ويجري التنافس بين المناطق في الجودة، كما أرى إشراك القطاع الخاص في التخطيط والتنفيذ للفعاليات. فلماذا لا تبنى فعاليات هذه المهرجان الهام بعد أن تجري الجهة المسؤولة عنه حوارًا إعلاميًّا مكثّفًا تساهم فيه الصحف والمنتديات والإذاعة والتلفزيون؟ استطلاع الجماهير ويشارك الكاتب المسرحي ناصر محمد العمري بقوله: بدون شك إن تكرار أي مناسبة يلقي بشيء من الرتابة عليها؛ وهذا ما تعانيه الجنادرية حاليًا، فتقادم العهد والسنين أدى إلى هذه الحالة، ولا شك أن الجنادرية في أمسّ الحاجة إلى بث روح جديدة في نشاطها تتواكب مع تطلعات المثقفين ومعطيات العصر، ولعل هذا الزمن تجاوز كثيرًا أساليب المحاضرات والندوات التي يختار لها عناوين وموضوعات هي في مجملها إما مكررة أو لا تمس ثقافة وواقع المجتمع المحلي، ثم إن أسلوب المحاضرات يجب أن يتحوّل إلى أشكال جديدة، لأن أسلوب المحاضرة والندوة تجاوزه الزمن، وقد يكون البديل المناسب إقامة ورش ثقافية أو ملتقى فكري سنوي الذي يسهم في إيجاد حراك ثقافي حقيقي عبر اختيار محاور تناقش واقعنا الثقافي وهمومنا الثقافية بشكل دقيق ويسهم في بناء وإيجاد معايير وأدوات قادرة على الكشف والحكم الصادق الأمين على الممارسات الثقافية والتراثية السائدة وأساليب تطويرها. ويواصل العمري: وأرى أن يكون للشباب دورهم في إدارة دفة العمل في الجنادرية لأنهم أقدر على فهم معطيات العصر وتوظيفها لمصلحة هذا الكرنفال الكبير، وأظن أن المتاح اليوم من التقنيات يسمح باستطلاع آراء المجتمع بكافة شرائحة عبر استبانة إلكترونية تستطلع رأي الجمهور فيما يقدم وتطرح أسماء المشاركين كمقترح لمعرفة رأي الجمهور والمثقفين حولها، ولعل طلب طرح محاور من قبل المثقفين وعموم المواطنين والمقيمين عبر الاستبانة الإلكترونية يسهم في الوصول بالموضوعات المطروحة إلى رضا الجمهور ويجعلها كتظاهرة تحوز اهتمام الجميع فنتحول كمجتمع نحو التفكير جديًّا في كل ما من شأنه الحفاظ على جمال الجنادرية وتميزها، والاستبانة الإلكترونية سيكون لها أثرها في جعل الجنادرية مشتركًا وطنيًا وهاجسًا يشغل بال الجميع وهمًا جمعيًا، لأنها الآن رغم جمال ماقدمته ورغم أنها أصبحت أيقونة تخفي خلفها ملامح جمال تراثي وثقافي إلا أنها هم “القائمين عليها”، وهذا يلقي بالكثير من العبء على من جعلوا منها همهم الكبير وحملوا على عواتقهم رفع لوائها، وقد حان الوقت الذي يتحمل فيه الجميع هم التفكير في الارتقاء بها ورفد مسيرتها كواجب وطني. ولعل هناك الكثير ممن يحملون أفكارًا بناءة لم يتح لها أن تصل إلى القائمين على الجنادرية، والتقنية اليوم ستسهل الطريق أمام كل مقترح جاد وبناء ويوصله بين يديهم. ويخلص العمري إلى القول: أظن الجنادرية اليوم في حاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى للتحول نحو الممارسات المنهجية وإتباع الأساليب العلمية لضبط بوصلة الجنادرية نحو ميادين التميز، ولا شك أن هناك بيوت خبرة عالمية وعربية في مجال تنظيم الملتقيات التراثية والثقافية لها القدرة على تشخيص واقع الجنادرية، ولا غضاضة في ذلك، فالنجاحات السابقة وما تم تقديمه مبهج وجميل ويعطي انطباعًا عن تراثنا وثقافتنا، ولكي نستمر في قلب الحدث فإن الجنادرية وهي واجهة ثقافية وتراثية وطنية تحتاج لممارسات ناضجة ترتهن إلى العلمي والمنهجي، وتتكئ على خبرة ميدانية وأكاديمية وتنفتح على المجموع والمهتمين وتفيد من مقترحاتهم ورؤاهم. تغييب الفصيح مشاركة الشاعر ماجد الغامدي تجلت في قوله: مهرجان الجنادرية برز كتظاهرة ثقافية في جوانب مختلفة شملت الحِراك الثقافي والإبداع الفني والفكري، وهو كمناسبة سنوية مناخٌ خصب لالتقاء جوانب الإبداع وأربابه على كافة المستويات وبمختلف الاتجاهات، وكان من أولى رسائله مد جسر التواصل بين الموروث الشعبي بحكم قربه من فكرة المهرجان الأصلية وعلاقته بالإبداع بشتى جوانبه، واستضاف كبار المثقفين والمفكرين العرب، ومن خلال ذلك ساهم في التعريف بتراث وثقافة الوطن المتأصلة، ومن ثَم إيصالها والتعريف بها خارج الوطن باستضافة نخبة من النثقفين المدعوين، وكذلك نقله عبر الفضائيات، وساهم بهذا بتلاقي الجوانب الثقافية والفكرية والعادات الاجتماعية في بلدانِهم المتطابقة أو المتناغمة مع الموروث المحلّي عبر المحاضرات والندوات والدراسات المقدمة كنوع من التلاقح الفكري مع كافة بلدان العالم التي كان آخرها روسيا. ويواصل الغامدي مضيفًا: الملفت للنظر والموجع هو تهميش الرافد الأصيل والأكثر عراقة والأولَى بالاهتمام كونه الموروث الأنقى وهو الشعر الفصيح الذي لم يُسمح له باعتلاء المنبر الافتتاحي إلاّ بعد أكثر من عشرين سنة على افتتاحه أي في عام 1426ه، في حين تُلقى سنويًّا قصيدة شعبية وتُقام العديد من الأمسيات الشعبية رغم الضجة الإعلامية الصاخبة في القنوات الفضائية لهذا اللون من الشعر، والتي أراها أحد الأسباب الوجيهة لعزوف المثقف الحقيقي الذي لا أراه بالضرورة الشاعر أو المبدع؛ وإنما صاحب القضية التي يؤمن بها ويدافع عنها، وقد دار محور كثير من الندوات والمحاضرات حول الموروث الشعبي وتطوره وعلاقته بنواحي الحياة في حين لم يُنظر في الاتجاه الآخر باعتبار أن منبع اللغة الفصيحة هو المعين العذب الناضح الذي كان له الأثر الأسبق في إثراء اللهجات بالتحوير أو الاشتقاق وغيره، وتماسه مع كافة العلوم المعرفية (وسعتُ كتابَ اللهِ لفظًا وغايةً)، والأجدر في رأيي إن لم يُمنح الشعر الفصيح الأولوية، أن يصبح الاهتمام به على الأقل بالتوازي مع الشعر النبطي؛ فجزيرة العرب معين اللغة وأرض الأصالة وأفصح العرب؛ بل أدعو أن يكون (أوبريت) الجنادرية تناوبًا في أقل الأحوال بين الشعر الفصيح والنبطي بعيدًا عن التسلط الثقافي الذي أثقل منبر الوعي، وشعراء المملكة ومبدعوها قادرون على تجسيد البطولة وتمجيد الملاحم وتخليد البطولات وتنضيد المناقب، فهناك نخبة واعية ممتدة الأغصان راسخة الجذور قادرة على إظهار الوجه الحسن للإبداع.