لو سئل مؤرخ الحضارات عن أهم السمات الحضارية التي امتازت بها الحضارة الغربية وتفوقت بها على قريناتها من الحضارات الأخرى لقال: هي باختصار؛ العقلانية، والحرية، والذاتية. فالعقلانية أولا تشمل في داخلها التقدم العلمي الهائل والتطور التقني، إضافة إلى سيادة مبدأ العقلنة الذي أصبح هو المعيار النهائي لقياس الأمور والمفاضلة بينها، وللبت فيما اختلف فيه الناس. والحرية ثانيا وجدت التحقيق الاجتماعي لها في إطار مفهوم الديمقراطية والحياة السياسية التمثيلية أو النيابية؛ وهي حرية لا تقتصر على الشأن السياسي وحده، بل امتدت إلى كل مناحي الحياة لتشمل السلوك والتفكير والاعتقاد. وأخيرا فإن سمة الذاتية هي في رأي البعض الأساس الفلسفي والروحي للمفهومين السالفين؛ إذ إن إقرار الجانب الفرداني للشخصية الإنسانية، وتربية هذا الجانب وتعهده بالرعاية والنماء، إضافة إلى تنمية الوعي الذاتي، قد ضمن للديمقراطية والحرية أن يكونا عاملين حضاريين فاعلين. هذه السمات الحضارية الثلاث إذا اجتمعت فإنها بكل تأكيد ستؤدي مفعولها وتصل إلى الغاية التي رسمت لها. وبالتأكيد فإن الغاية القصوى التي ستصل إليها هذه السمات مجتمعة هي الإنسان ذاته. فالإنسان هو أولا وأخيرا المقصود من التقدم الحضاري وهو الذي يجسد هذه القيم أحسن تجسيد. لا يخفى أن المبادئ والأفكار العامة ليست عصا سحرية قادرة على ابتلاع كل المشكلات والتهام كل ما يقف أمامها من عوائق. فلا بد من إرادة صادقة للإصلاح والتغيير والتطور. وأما إذا كانت الإرادة نابعة فقط من جهة واحدة فإنها ستكون إرادة ضعيفة. فلو نبعت الإرادة مثلا من جهة المثقفين والأدباء، ولم تتحول لكي تكون إرادة شعبية عامة فلن يكون لها من تأثير إلا ما يطرأ طروءا ويعرض عروضا. فالإرادة هنا عرضية وطارئة، ويمكن أن نسميها ترفيّة ( = من الترف ). ولم يكن يوما للمثقفين وحدهم دور الإصلاح الحضاري والتغيير الاجتماعي، للسبب الذي ذكرناه للتو. فالتاريخ هو تاريخ الشعوب والبشر قبل أن يكون تاريخا للمفكرين والأبطال الفرديين. صحيح أن الأبطال من مفكرين وعلماء وساسة هم من يتولى زمام القيادة، ولكنهم بالمقابل غير قادرين على السير بالمجتمع إلى الأمام ما لم يكن المجتمع ذاته راغبا في التغيير. وعليه فالعمل التقدمي يجب أن يستغرق وقتا أطول مما يتصوره كثيرون من المثقفين. وبودي لو تحلى المثقف هنا برؤية وسعة أفق المؤرخ الذي يعرف جيدا أن للتطور الاجتماعي زمانا يختلف عن زمان التطور الفردي. والزمان ليس واحدا بكل حال في حقب التاريخ المختلفة؛ فلن يكون الزمان الذي يستغرق فيه التطور الحضاري لأمة ما هو ذاته الزمان الذي استغرقته حضارة أخرى في تطورها عربيا تم التعاطي مع قضية التقدم والتطور من منظور شخصاني بحت، بل إن المفكرين كثيرا ما استعانوا بالقوة العسكرية لتحقيق التقدم. لقد يحدث أن تؤدي مثل هذه القوة إلى نتائج ولكنها لن تنطوي على ذلك التقدم المرغوب فيه والذي ينبغي له أن يتجذر في بنية المجتمع والثقافة تجذرا عميقا، وصحيح أيضا أن اللجوء للقوة قد ينفع ولكن في الحالات التي يكون فيها المجتمع قد قطع شوطا طويلا من الحراك والكفاح، أو حينما تقف مجموعة أو فئة معينة ذات مصالح خاصة ضد إرادة الغالبية العظمى من الناس، وأخيرا في الحالة التي تؤدي فيها القوة إلى الحصول على منافع عظيمة مباشرة يلمسها الناس بأيديهم ويرونها رأي العين. يمكنني القول إن ثمة من المفكرين من لا يختلف في منهجه مع منهج الجماعات الأصولية المتطرفة التي تريد تحقيق الصورة المثلى للمجتمع، كما يفهمونها، تحقيقا سريعا، وإذ يقف الواقع كالصخرة الصماء في وجوههم لا يجدون بدا من التوسل بأية طريقة، كالعمل القسري والإرهاب ونحوها. وهناك صورة أخرى من صور ضيقي الأفق والصدر، وهي صورة المثقف الأناني الذي يريد أن يحدث التغيير المثالي ويريد تحقيق مجتمع الرفاهية عاجلا غير آجل لكي ينتفع منه قبل حلول الأجل، فإذا أخبره من تحلى بالرؤية التاريخية الواسعة أنه لن ينال مراده إلا بعد زمان طويل لن يكون هو من «شهوده» أحبط واغتاظ وانسحب من المشروع النهضوي الخطير الذي ينوي إقامته!. كل هذا بالقطع موجود لدى النخب المثقفة، ولكن هناك أيضا من يؤسس ويدشن ويبدأ وهو يعرف تمام المعرفة أن ثمرات التأسيس والتدشين والبدء ستكون من نصيب الأجيال القادمة وأن جيله الحاضر ليس له إلا الكدح والتعب والشقاء. هذه الفئة الواعية من المثقفين هي التي تدرك أيضا أن القيام بالتقدم الحضاري ليس مهمة مناطة بهم وحدهم، فلا بد أن يشترك معهم الناس في تحقيقها. وبخصوص العلاقة بين النخبة والمجتمع ودورهما في التغيير الحضاري أثير نقاش بعد الثورة الفرنسية بزمن طويل، وكان مدار النقاش: هل الفلاسفة؛ فولتير وروسو ومونتسكيو وهلفسيوس هم من قاد الثورة وأطاح بالظلم، أم أن الناس هم من فعل ذلك. واحتدم النقاش، وذهب كل واحد منهم مذهبا يؤيده حينا بالحجة وحينا بالبلاغة. ففريق يرى أن الفلاسفة التنويريين هم من أيقظ الناس من سباتهم وأرشدهم إلى حقوقهم التي سلبها الإقطاعيون ورجال الكنيسة، وفريق ذهب إلى أن الفلاسفة كانوا عالة على ثورة الشعب الجائع، ولكن الفريق الثالث، وهو أكثرهم دراية وحكمة وجد أن التقدم الحضاري لايتم من طرف واحد: لقد كان الشعب الغاضب يبحث عن الخبز، ولكن كان هناك من استثمر هذا الغضب واستغله أحسن استغلال، فوجه العقول نحو المطالبة بحقوقها، وبث فيها من الحماسة ما يجعلها تهب وتنفض عنها غبار الذل، فنجم من هذا الزواج بين الفكر والواقع، وبين النخبة والجماهير ثورة خالدة لا يزال دويها يصم آذان الطغاة، ولاتزال مبادؤها التي رسمها لها مفكروها دليلا هاديا للعقل الباحث عن الإنصاف والعدالة والمجتمع المثالي. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة