حزنت وتألمت لرحيل العالم الموسوعي، والمثقف الشامل، المفكر الجليل الدكتور صلاح الدين المنجد رحمه الله بعد معاناة طويلة مع المرض.. فقد كرمته «الاثنينية» بتاريخ 4/7/1405ه الموافق 25/3/1985م، تقديرا لجهوده المشكورة ومؤلفاته العديدة التي تناولت الكثير من القضايا المهمة، فساهمت في توثيق سيرته الذاتية، ومسيرته العلمية والعملية، وبالتالي دخل ضمن «الجزء الثالث» من سلسلة أمسياتها الموسوعية، وأصبح في ذمة التاريخ. عمل الفقيد مديرا لمعهد المخطوطات العربية في جامعة الدول العربية، ثم مستشارا بها حتى عام 1961م.. استحق بجدارة صفة «العالم الموسوعي» نظرا لتعدد مواهبه ومؤلفاته التي بلغت أكثر من «مائة وسبعين» إصدارا في شتى العلوم، وأسهم في إثراء المكتبة العربية بروافد عطائه التي منها: المعاجم الدراسات التاريخية دراسات عن الخط مؤلفات أدبية السيرة النبوية فهارس وتحقيق المخطوطات العربية، دراسات في الفكر السياسي المعاصر دراسات استشراقية الوثائق السياسية المخطوطات المحققة نصوص ودراسات دبلوماسية دراسات آثارية عن دمشق وسورية دراسات إسلامية. وهب فقيدنا حياته للعلم والتأليف، وشأن كثير من المبدعين اشتهر بلون معين، فقد عرف بأنه من الرعيل الأول الذي بذل جهودا مضنية لخدمة الثقافة والأدب والفكر من خلال تخصصه الدقيق في المخطوطات، فكان لا يجامل ولا يحابي ولا يداجي في العلم الذي كرس له شطرا كبيرا من حياته.. عامل المخطوط كما يعامل أحد أبنائه، يأخذه باللين والرفق والحنان الذي تشعر به في رنة صوته، وحركة يده حين تلامس الورق تقليبا لصفحاته، كأنه آس يجس عليلا.. وبعد الفحص الدقيق بعين لا تخطئ مواطن القوة والضعف يحكم على المخطوط بتؤدة وتحفظ شديدين.. يكون أثناء ذلك قد راجع في ذاكرته الفذة وعدد النسخ الأصلية الموجودة في العالم، سواء في أستانبول بتركيا أو المغرب العربي، أو مكتبات لندن، وباريس، وروما.. تجده دائما حفيا بالمخطوط وتدارس همومه وشجونه في الساحة الثقافية.. حتى بات رحمه الله علما ومرجعا لا يستهان به في علم التحقيق، ومعرفة الغث من السمين في عالم المخطوطات.. وقد لا يعلم كثيرون أنه أول من وضع قواعد تحقيق المخطوطات، وقدمها لمؤتمر المجامع العلمية بدمشق عام 1956م، وترجمت فيها بعد إلى عدة لغات منها الإنجليزية، والفرنسية، والإيطالية، والإسبانية، والتركية، والفارسية. وبحكم حيازتي عددا لا بأس به من المخطوطات، كنت أستعين به لتقييمها ومعرفة الأصل من المنسوخ والمنحول والتقليد بالإضافة إلى عمر المخطوط ودرجة اتقانه.. فكان أحيانا يجيب بداهة، وأخرى يغيب عني الشهر والشهرين ثم يأتيني بالنبأ اليقين.. رجل ثقة، وعين بصيرة، وذاكرة حديدية، وهمة عالية في مجال تخصصه.. كما كان يعلم القيمة الحقيقية لكل مخطوط في زمن تكاثر فيه المتعالمون، والمنتفعون من تجارة المخطوطات وتهريبها عبر الحدود، حتى اغتنت منها بعض دور المزادات العالمية والمضاربين في هذا المجال. كان رحمه الله غيورا على المخطوط، يسعى جاهدا للحصول على النادر والمتألق، وإن لم يجد إلى ذلك سبيلا نشر علمه بين من يتوسم فيهم الاستطاعة، إدراكا منه بأهمية عودة هذه الكنوز المهاجرة إلى ديارها الأصلية.. وقد تحقق له الكثير من ذلك.. وأذكر له بالفضل الفحص الدقيق الذي قام به تجاه بعض المخطوطات العائدة إلي والتي شرفت بإهدائها أخيرا إلى «مكتبة الزاهر» في مكةالمكرمة، بالتنسيق مع دارة الملك عبد العزيز في الرياض، وذلك حرصا على تعميم الفائدة منها، وتحقيق أقصى فائدة ممكنة، مع توفير البيئة المناسبة لحفظها بعيدا عن عوامل التعرية من رطوبة، وحرارة، وعثة، وغيرها من الآفات التي تضر المخطوط وتعجل باندثاره. رحم الله فقيدنا العالم الجليل الدكتور صلاح الدين المنجد، وأحسن إليه بقدر ما قدم لساحة العلم والثقافة، وألهم آله وذويه الصبر وحسن العزاء.