سعدت كثيرا وأنا أقرأ مجموعة أغنيات الليل لصديقنا الشاعر السوداني الجميل عبد الإله زمراوي، ذلك المغترب العنيد الذي نبع من منطقة النوبة في شمال السودان، حيث تولد الأساطير والطقوس كلها، ويولد الشعر في أية بقعة وأية لحظة، هاجر بقصائده بعيدا، والآن يعيد إنتاجها شعرا سخيا، بعضه من وحي الحبيبة وبعضه من وحي الوطن، وربما مزج بين الاثنين فلا يعرف الوطن من الحبيبة. المتأمل لأغنيات الليل، يجد ذلك الطعم الذي يحمله الشعر السوداني دائما، إنه طعم مختلف برغم أن قصيدتنا عربية، وتكتب بمفردات العربية، لكن يبدو أن الثقافة الإفريقية التي تختلط بعربيتنا، تمنح قصائدنا ورواياتنا بعدا آخر لا تحسه إلا عندنا، وأجزم أن القصيدة السودانية بالذات يمكن تمييزها وسط آلاف القصائد حتى لو وقعت بقلم آخر. عند زمراوي تجد ما أسميه بالصحوة الجديدة للشعر، قصائد منسابة عذبة، تمنح موسيقاها التي تطرب، تبدأ القصيدة منتشيا، وتكملها منتشيا، وتعود مرة أخرى لتقرأها متأملا، وقد قلت كثيرا، إن الشعر غرر به بواسطة أبنائه حين حولوه إلى طلاسم عصية على الفك، وحين كسروا ركبتيه، فصار كسيحا لا يقوى على الوقوف ندا للرواية التي نازعته مكانته في السنوات الأخيرة، لكن زمراوي وشعراء آخرين يفاجئونني بين حين آخر، حين أقرأ لهم قصائد مهندمة ورائقة وتقف على قدميها. احتشدت أغنيات الليل، بمفردات الحنين للوطن، الوطن المعاش في السابق، والوطن الذي يود الشاعر أن يعيشه، ثمة رائحة للدروب القديمة، للنخيل القديم، للنيل القديم، والليالي التي تأبى القصيدة مفارقتها، ودائما ما يطل وجه الحبيبة البهي، وصوت الشاعر الذي يعود إلى وطنه داخل القصيدة، ليس وطن اليوم ولكن وطن الأمس الذي حمله أمانة كبرى، هي أن يحمله داخل قصائده أينما ذهب، وعلى هذا الوتر الشجي، تأتي الأغنيات أحيانا باكية ومعذبة، لكن أيضا بموسيقاها وعباراتها السلسة.. وقد كتب ماركيز في إحدى رواياته عن أحاييل الحنين التي يمكن أن تجر القدم المهاجرة إلى الماضي، وتحدث الصدمة، حين ملاقاة الوطن، لكن أحاييل الحنين عند زمراوي، لم تحدث الصدمة، وإنما أحدثت أملا. أخيرا: لا بد من أن أذكر تلك المتعة التي صاحبتني وأنا أقرأ تلك الأوتار المعزوفة بفن، وأؤكد أن الاغتراب جزء هام من محركات الكتابة الجيدة، هنا يأخذ الخيال حرية أكبر، تلعب الأشجان بالقلب، ويخرج ذلك الشعر الجميل العذب.