أربعون عاما والعم محمد الشافعي يحث خطاه يوميا بين أزقة وحارات البلد، ليأخذ مكانه في محله العتيق. ومنذ الصباح الباكر وحتى غروب الشمس تعيث يداه في الأقمشة الملونة ذات النقوش الغريبة، وتلف أصابعه الخيوط ليصنع تحفة فنية لا تتجاوز «لي» شيشة. يتفنن في صناعة «اللي» على طريقته الخاصة، ولأنه يجيد مهنته ويمارسها باقتدار لم يجد زبائنه من عشاق الشيشة بدا من توثيق زياراتهم له بالتوقيع على جدار المحل وتسجيل ذكرياتهم، محولين المكان إلى متحف فني من نوع مختلف، فيما يقابل صاحب المحل ذلك بابتسامة المهني الناجح. يفتح الشافعي محله في سوق البدو أمام مدخني شيشة الجراك والمعسل، ليقدم لها عرضا مجانيا في كيفية صناعة «لي» الشيشة وفق أمزجتهم، ولا يكتفي معظم زبائنه بشراء مستلزماتهم ومغادرة المكان، لكنهم يجدون هذه الزيارة فرصة سانحة لمشاهدة العرض ويتسمرون لدقائق طويلة مشدوهين أمام خفة يديه وهي تحيك الأقمشة وتصنع الليات بسرعة عجيبة. ورغم ضيق المحل الذي لا يتجاوز المترين طولا في عرض متر واحد، يستقبل العم محمد زبائنه بقلب كبير وسعادة بالغة قبل أن يعرض عليهم أنواع الليات الجاهزة، وإذا لم يعجب الزبون ما هو جاهز عرض عليه تفصيل «لي» حسب الطلب وبالطول واللون الذي يناسبه. ورث الشافعي هذه المهنة عن عمه منذ الصغر وطرق أبوابها وهو ابن العاشرة، وكان يرافق عمه إلى محله القديم في السوق ويسترق اللحظات لينظر إلى حركة يديه وهي تتلاعب بالخيوط، فشدته المهنة وعشقها ورغب في تعلمها، فكان له ما أراد في عام واحد، وخلال فترة وجيزة أصبح عمه يعتمد عليه في كل شيء ومنذ ذلك الوقت والشافعي يقضي أيامه في هذا المحل وسط ذكريات أربعين عاما. وعلى بعد أمتار من محل الشافعي، يمارس سعد عضوان صناعة الشيشة بمختلف أشكالها وأحجامها، مكملا لعمل جاره الشافعي. يبدأ عضوان صباحه يوميا باستنشاق رائحة الشمع والعلك واللبان التي يعبق محله برائحتها النفاذة. ويتلخص عمله في صهر الشمع والعلك واللبان على «الكير» وصبها داخل الشيشة، المصنوعة مسبقا والمزينة بزخارف جمالية متنوعة تشير إلى ارتباطها بالتراث الحجازي. كل هذا يحدث مع تصاعد أنفاس ستة ملايين مدخن للشيشة بأنواعها بينهم 35 في المائة من الشباب و40 في المائة مراهقين و20 في المائة من النساء.