تستطيع أن تحكم على أية أمة أو مجتمع من خلال تعامله مع الإنسان، فبقدر الأخلاقيات المتبادلة بين الأفراد في مجتمعاتهم تتكشف درجتهم بين الأمم علوا وانخفاضا، رقيا وانحطاطا، فإن كانت أخلاقهم متسامية تقدر الإنسان أيا كان استقلوا القمة، وإن كان الإنسان لديهم لا تعرفه إلا من خلال أنينه أصبحوا في الحضيض المؤذن بالرحيل، وهذا ما رمى إليه الشاعر العربي الكبير شوقي حين قال: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا ويأتي الاحترام للإنسان من عدة جوانب، أولها الحفاظ على كرامته في نفسه وعرضه وماله، ومنحه حريته في ممارسة عقيدته، وإبداء رأيه ومساواته مع غيره دون أي تمييز، ومن أجل ذلك تسابقت الحضارات في وضع شرائعها بما يحقق للانسان مطالبه ويريح مشاعره. ولقد جاء الإسلام بكل ذلك، فكرامة الإنسان قررها القرآن في قوله تعالى: «ولقد كرمنا بني آدم»، وعندما قال الرسول: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، فهذا يعني أن كرامة الإنسان قائمة على أخلاقيات يؤديها وتؤدى إليه، وهي التي منحته الكرامة، وإلا كان كالدواب العجماوات لا تتمتع بعقل يرتقي بها ولا تتعامل بأخلاق يجعلها محترمة الجانب، ومن تلك الأخلاق الأمانة التي رفضتها السماوات والأرض والجبال وتحمل عبء القيام بها الإنسان رغم عظم مسؤوليتها لكن ما دعاه لذلك هو عقله الذي يستند على وحي ربه ويثق أنه سيؤهله الممنوح له من الله ليمارس به حياة كريمة لا ليضعه على الرف ويرفرف بجناحي طائر أو يتعامل بفرسني حيوان. والدولة التي اتخذت الشريعة الإسلامية منهجا لها وقانونا تحتكم إليه لن تأخذها في الحق لومة لائم إذا ما طبقت ما ارتضت من تشريعات؛ لأنها تستند على ثوابت في الأحكام، ومنها ما يتعلق بحقوق الإنسان التي هي في صلب منبع التشريع، ومنها: المساواة، فالناس سواسية كأسنان المشط لا فرق بين عربي وعجمي، ولا بين أسود وأبيض، إلا بالتقوى التي هي مصدر كرامة الآدمي التي منحته حق التفاضل مع أبناء جنسه، وهذه التقوى لها دلائلها الفعلية في الواقع الذي يشهد لصاحبها بالأفضلية وليست مجرد تسمية دون تطبيقاتها العملية. مساءلة المسؤول أمر شرعي وقانوني ودليل حضارة تختلف تماما عن قانون الغاب وغلبة أسوده على باقي الحيوانات، فالمسؤول راع ومسؤول عن رعيته وما كلف به يجب أن يؤديه على أكمل وجه «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه» إذ ليست المسؤولية الحكومية ملكا خاصا وإنما هي منفعة عامة تتعلق بمصالح عموم الناس ومن حقهم السؤال عنها، ولولي الأمر مسائلة المشكوك في أمره وسؤاله من أين لك هذا، فهذا رسول الله يغضب لدين الله وحقوق المسلمين ويصعد المنبر، يقول أبو حميد الساعدي استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد، يقال له: ابن اللتبية على صدقة، فجاء، فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: «ما بال العاملِ نبعثه فيجيء، فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده، لا يأتي أحد منكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر»، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة يديه، ثم قال: «اللهم هل بلغت» ثلاثا. وليست مصالح الناس لمن ابتغيناه أو ابتغاها وإنما هي للأقدر والمؤتمن، فأبو ذر رضي الله عنه في الحديث الذي رواه مسلم يقول: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب يده على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها». ولا يحابى أحد في حقوق الناس وأموالهم أيا كان قريبا أو بعيدا، أو يكون لأحد عصمة فوق القانون فيؤخذ الضعيف بجريمته ويترك القوي الذي يجد من يحميه أمام القضاء، وقد ساوى الإسلام بين الناس في كل شيء، قال صلى الله عليه وسلم: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها». الحفاظ على الأرواح فلا يكون بشأنها ما يؤذيها أو يكون خطرا عليها، وإنما يعمل على تأمين كل ما يحافظ على سلامتها في كل الجوانب ويبعدها عن الهلاك أيا كانت مصادره. الحفاظ على الأموال العامة وحفظ بيت مال المسلمين من أن تؤخذ حصيلته دون وجه حق أو بالغش والتدليس والمكر، وقد أقطع الرسول صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة أرضا فلما كان عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه استرد منه ما لم يستصلحه وترك له ما استصلحه. والنزول في الوديان نهي عنه شرعا ولو لبعض الوقت فكيف بالبناء فيه ومنحه وتخطيطه سكنا، وتدخل الوديان والمراعي والسواحل والجبال ملكا عاما لا يجوز المساس بها إلا فيما يعود بالمنفعة على الكل، فهي مما يجب الحفاظ عليه كجزء من مكونات البيئة. حتى الحفاظ على الحيوان له في الشرع الإسلامي ما يصون حقوقه ويبقي له روحه ومن أجله دخلت بغي الجنة برحمتها له، وعمر بن الخطاب يعلن أمام الأمة بأنه مسؤول عن الحيوان كما أنه مسؤول عن الإنسان: «لو أن بغلة عثرت في العراق لسئلت عنها». والملاحظ سقوط القيم من أجل الحصول على الأراضي التي لا سيطرة قانونية عليها، وإنما هي نهبة، ولقد صار الجشع في الاستحواذ عليها هو أساس المشكلة لدينا، وجرد البعض من القيم وجعلهم يعمون عن الحلال والحرام ولا يبالون بقطع الأرحام من أجل لقمة تتحول نقمة ونارا في الجوف تتلظى. [email protected]