يتفق الجميع على أن الشرق الأوسط يشهد صراعات نفوذ ومنافسات وعداءات، وأنه متخم بالاضطرابات والإشكاليات، ولا أدل على هذا من تصدر أخباره وأحداثه في أغلب وسائل الإعلام الغربية والدولية. في البداية ثمة تساؤل يطرح نفسه، وهو عن إسرائيل وهل مازالت تمثل خطرا حقيقيا اليوم؟.. الجواب ببساطة: نعم، فهي وإن تخلت عن أوهام التوسع وفقدت الرغبة في دخول أي حرب مع الدول العربية، إلا أنها من جهة أخرى لم تزل ترتكب الحماقات السياسية، وتمثل محركا مهما لأنواع المزايدات والاضطرابات في كافة المنطقة من فلسطين ومعركة حماس مع السلطة، إلى لبنان وحزب الله والصراع بين منطق الدولة ومنطق القوة، إلى رفع محاربتها شعارا لكل الحركات الثورية المزايدة والدول الإقليمية ذات الطموحات التي لا تعرف الحدود. ربما كانت إسرائيل في ظل حكومة يمينية متطرفة كحكومة نتنياهو تسعى لتأجيج الخلافات الإقليمية أكثر مما تسعى لإطفائها، وتشغلها مكاسب صغيرة ضد الفلسطينيين عن رؤية الصراع الدائر في المنطقة بمشهده الكامل، يغذيها غرور القوة ويزيدها في الغي الدعم الدولي اللامحدود لها، وتتيه امتلاء أنها قادرة عبر تغلغلها في النسيج السياسي للدول الغربية على وضع العصي في دواليب أية دولة تسعى للضغط عليها، ومثال ذلك تعاملها مع أوباما وإحكامها الحصار عليه عبر مجلسي النواب والكونغرس. غير إسرائيل ثمة خطر آخر تمثله الجمهورية الإسلامية في إيران بما تحمله من مشروع إقليميٍ للتفرس في المنطقة فهي سعت ولا تزال تسعى من خلال خططها وبرامجها المستمرة، ودعمها اللامحدود إلى تغيير طبيعة التوازنات الإقليمية، وحتى التوازنات الداخلية لبعض دول المنطقة، فقد استغلت الحرب على العراق وعلى أفغانستان لتقدم نفسها كفاعل رئيسي في المنطقة لا يمكن تجاهله، فهو نافع جدا حين يتحالف، ومضر أكثر حين يخالف، وأوراقها المشروع النووي الغامض والجماعات التي زرعتها في دولٍ كبرى في المنطقة كالعراق وكثرة الجماعات الموالية لها هناك، شيعية وسنية، والتي تحركها بالريموت كنترول. لبنان وحزب الله فيه، والحوثيون في اليمن، وبعض البؤر التي تحسبها موالية لها في الخليج، وكذلك القاعدة في العراق واليمن والقاعدة الأم التي تتحكم فيها إيران كيفما شاءت، وتصريحات المسؤولين الإيرانيين من وزير الخارجية إلى قائد الجيش تجاه الحوثيين توضح بجلاء ماذا تريد إيران ومن تحارب؟ سوريا تلك الدولة الكبيرة التي ذات التأثير المعروف لها حساباتها الخاصة، وإن استطاعت إيران في الفترة الماضية التقرب منها، إلا أنها الآن تحاول رسم طريق خلاص خاص بها، ولهذا مؤشرات ينبغي وضعها في الاعتبار، منها إقبالها على استئناف المفاوضات مع إسرائيل، والدعوة التي أطلقتها وتطلب فيها من تركيا التقرب من إسرائيل لتمرير مفاوضات السلام وتحريكها، وإصرار الرئيس الأسد في فرنسا على الوسيط التركي، ومنها استنكارها لأعمال الحوثيين التخريبية في جنوب السعودية، هذه المؤشرات تدل على أن شيئا ما يحدث في سوريا مختلف عما مضى مبشر بما يأتي. ثم هناك تركيا فهي مع حزب العدالة والتنمية ورجب طيب أردوغان لم تزل تراودها أحلام الدولة العثمانية وتسعى لإثبات نفسها كقوة إقليمية معتبرة سياسيا وعسكريا، وغضبة أردوغان التي سعت لمداعبة الحس القومي التركي في دافوس السنة الماضية مثال صارخ على ما تسعى له وما تطمح إليه، ووساطتها بين سوريا وإسرائيل، وقبولها بأن تكون موضع الاستلام والتسليم للصفقة الغربية المعروضة على إيران بخصوص اليورانيوم والوقود النووي، كل هذا يدل على الدور الذي تسعى له والمكانة الإقليمية التي تطمح إليها، وهدفها فوق هذا كله هو تقديم مزيد إثبات لأوروبا المتمنعة عليها والممانعة لانضمامها للاتحاد الأوروبي أنها دولة مؤثرة في المنطقة، قادرة على التعاون في مواجهة الخطر الإيراني وقادرة على التوسط بين سوريا وإسرائيل، والأهم إقناع السوريين بأنها طريقهم إلى استعادة أرضهم والوصول لحل مرض مع إسرائيل رغم كل تلاعبات إسرائيل وقوتها وعلاقاتها. «مشكلة الغياب»ربما كانت هي التعبير الأصدق في هذا السياق عن مواقف الدول العربية، فهي دول تبقى شبه غائبة عن هذا المشهد الإقليمي المؤثر عالميا، فالعراق متروك لمصيره، وأفغانستان نسي منسي، واليمن لا يمكن مواجهة الاضطرابات فيه إلا بالحرب على الحدود فحسب! «مشكلة الغياب» هذه جعلت الدول العربية وعلى الرغم من كل قدراتها من الخليج إلى المحيط غير مؤثرة في اللعبة الدولية والإقليمية في المنطقة بشكل كاف، ولم يزل دورها أقل بكثير من مكانتها الحقيقية ولم تعبر بعد عما تستطيع أن تصنع عبر قوتها الذاتية سياسيا وعسكريا وعبر تحالفاتها الدولية وحجمها الاقتصادي، لا لشيء إلا لاشتغالها إما بمشكلات داخلية صغيرة، وإما لانهماكها في مشكلات بينية أو حدودية محدودة، وذلك ما ألهاها عن الهم الأكبر والدور الذي ينبغي أن تعرف أنه منوط بها إقليميا وعالميا. حتى يتحالف معك العالم يجب أن تثبت له أولا أنك تفهم المنطقة أكثر منه، وأنك قادر على تحريك المجاميع البشرية والحركات المنظمة والدول حسب ما تريد، كما يجب أن تصنع جسرا بين مصالح العالم لديك ومصالحك لديهم ليعلموا بوضوح أين يجب عليهم الوقوف وماهي القرارات التي يجب أن يتخذوها. غنيٌ عن الذكر أن التعقيدات كثيرة والالتباسات أكثر، وأن الدول سريعة في تغيير مواقفها بناء على مصالحها، وهو ما يجب وضعه في الاعتبار دائما، فالسياسة لا تعرف ثابتا إلا التغير والتقلب السريع، وإن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب، والانطواء على مشكلات داخلية وإشكالات بينية لا يغني ولا يسمن من جوع، كما أن الهجوم هو خير وسيلة للدفاع، بشرط أن يكون هذا كله بتخطيط سليم وعقلٍ واع ورؤية واضحة، وقبل هذا وبعده تكاتف عربي يضمن النجاح ويغذي القوة ويدعم الدور. إن مسألة كبرى كالنفوذ الإقليمي والدور العالمي لا تدار بالسياسة فحسب ولا بالعسكر فقط، بل تدار على كافة المستويات، على المستوى السياسي والعسكري والتحالفي كما على المستوى الاقتصادي والمستوى الاجتماعي، ويلعب المستوى الثقافي دورا غير قليل حين يحسن الاستثمار فيه، ولا يقل عنه بل يزيد عليه الاهتمام بالمستوى العلمي والإبداعي الذي يثبت للعالم أننا جزء من صناعة حراكه وتطويره لا مجرد مستهلكين له، فرعاية العلم والعلماء المؤثرين في تطور البشرية جزء شديد التأثير في إثبات المواقف وترسيخ الأهداف. أخيرا.. فإننا خلال السعي لتكوين دور إقليمي فاعل ومؤثر لا يجوز بحال أن تعمينا المشكلات الصغيرة على الأرض عن الرؤية العامة لما يجري، مع الإقرار بأننا يجب أن نمنح مشكلاتنا المحلية عناية تليق بها وأن تكون لدينا استعدادات تامة لها، فتوحيد الجبهة الداخلية وتماسكها هما اللبنتان الأساسيتان لكل حراك إقليمي. واستيعاب تناقضات المجتمعات وتوحيدها للأهداف الكبرى أمر في غاية الأهمية حتى لا يؤتى من مأمنه الحذر ولا يجد الطامع مجالا للتغلغل والاختراق.. وكل عام وأنتم بخير. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 250 مسافة ثم الرسالة