عبدالله بن بجاد العتيبي - الاتحاد الاماراتية كثيرٌ ما قيل وما سيقال عن عامٍ ودّعناه وعام جديد نستقبله، وإذا صحّ لنا أن نصف التاريخ بأنّه عبارة عن تركات متتابعةٍ، يومٌ يورّث آخر، وعام يورّث عاماً، وحقبة ترث حقبةً، وتركة تتنقل عبر دواليب الأيام والليالي والعقود والقرون، والناس وإن اختلفت طرائق تعاملهم مع تلك التركات المتراكمة واستثمارها، فإنهم لا غنى لهم عن التعامل معها، فمستثمرٌ ناجحٌ ومستثمرٌ خاسرٌ. إن تركة 2009 الثقيلة ونحن نودّعه هي واقعٌ يجب علينا التعايش معه، بعيداً عن الأحلام والأماني التي كنّا نرسمها ونحن نستقبله، سواء على مستوى العالم، أم الدول أم المجتمعات أم الأفراد، ولكلٍ حساباته ومصالحه وموازينه، والزمن في مسيرته لا ينتظر المتأخرين، ولا ينظر للمتقهقرين، بل يغذّ السير للأمام، والسعيد من لحق بالركب وأحسن الاستثمار. جاء العام المنصرم بأوباما كأول رئيسٍ أسودٍ لأميركا قائدة العالم وأكثر دوله تأثيراً، واضطر أوباما لمواجهة مشاكل الولاياتالمتحدة ومشاكل العالم أجمع، واتخذ قراراتٍ تاريخيةٍ داخلياً وخارجياً، وأحدث تغييراً في الرؤية الأميركية لنفسها وللعالم، وقلب مفاهيم وأفكارا وسياساتٍ يرجو أن تكون هي الأفضل، وليس هذا زمان الحكم على حقبته، فهو لم يتمّ عامه الأول بعد، وسيكون للعام الذي نستقبله أن يصطف شاهداً فيما بعد بجوار أشقائه الأربعة الذين يمثّلون فترة ولايته. تعتبر منطقتنا لأسبابٍ كثيرةٍ ليس هذا مجال سردها من أكثر مناطق العالم اضطراباً وتأثيراً واستقطاباً للاهتمام العالمي، فشريان العالم الذي يمدّ نهضته وتطوّره وهو النفط يرقد هانئاً تحت منطقتنا، والفكر والحركات التي تملأ العالم خراباً وتدميراً ترتكز في منطقتنا، بالإضافة إلى أنّ هذه المنطقة مليئةٌ حدّ التخمة بالصراعات والنزاعات والاستقطابات والأيديولوجيات، التي يؤثر فيها تضارب المصالح وتفشي الخرافة والاختلالات السريعة في تركيبتها الاجتماعية وتقلباتها السياسية والتغير السريع في موازنات القوّة فيها. في هذه المنطقة تركة إسرائيل التي لا تفتأ تضع العراقيل تلو العراقيل في وجه عملية السلام، وهي اليوم تخضع لحكومةٍ يمينيةٍ تعيش حالةً تشبه الإعاقة في تعاملها مع ملف السلام بسببٍ من ثقل وطأة اليمين المتطرف والخرافي عليها. في هذه المنطقة تركة فلسطين وجرح التاريخ الغائر في هذا القرن، والانقسام الفلسطيني بين السلطة الفلسطينية وحركة "حماس" التي استحوذت على غزّة بقوّة السلاح، وأصبح حلم المناضلين الأوائل في وحدة الصفّ واستعادة الأرض نهباً بين المتنازعين وهباءً تتطاير به رياح المصالح الضيّقة وولاءات المناضلين الجدد ومصالحهم، وأصبحت القضية التي تزوّجها ياسر عرفات يوماً أشبه بالمطلقة المصابة بالفصام، فهي تحرق مصالحها كل يوم، وتجني على نفسها، وتُفشِل كل مسعى لمساعدتها. في هذه المنطقة تركة إيران وطموحاتها النووية. وفي هذه المنطقة تركة أفغانستان والحرب المستمرّة فيه منذ سنين دون أن تلوح لأهله بارقة أمل أو يروا ضوءاً في آخر النفق، وأميركا العالقة هناك تبدو حائرةً بين تدخلات إيران، والممانعة الباكستانية في التعاون الكامل التي يدفعها توجّسٌ قويٌ تجاه الهند وعلاقة أميركا بها، وأنّ الحرب الأميركية ضدّها قد بدأت برؤية انتقامية لم تفكر في الغد، وحين سعت لإضفاء رؤية عليها، فقد جاءت برؤية غربية، لا تمتّ للواقع هناك بصلة، وما مهازل الانتخابات في أفغانستان إلا دليلٌ على أنّ السعي لإلباسها لبوساً ليست مستعدةً له بعد لن يأتي إلا بمزيدٍ من الاضطرابات والنزاعات. في منطقتنا تركة اليمن الذي يخوض حرباً مفتوحةً على ثلاث جبهاتٍ: الحراك الجنوبي المتململ من الفساد المستشري والعشى في الرؤية لدى الحكومة، و"القاعدة" التي لم تزل ترى في اليمن ملاذها الأمثل بعد أفغانستان، والحوثيّون الذين يريدون إحراق الأخضر واليابس لمصلحة غيرهم. وحين تتحرّك الجبهات الثلاث في نفس الوقت ويكون بينها تعاونٌ وثيقٌ لا يمكن أن يتكامل إلا خلال سنواتٍ تسمح له بالنضج فإنّنا لا نجرؤ على طرح سؤال المسؤولية، لأننا لا نريد أن نعترف بالتقصير سواءً في الحكومة المركزية أو في التغافل الإقليمي، أو في التخاذل الدولي. في منطقتنا تركة العراق، فداخلياً وبعد استبداد البعث الأعمى ورث العراق الطائفية الشوهاء بشتى ألوانها الدمويّة القانية والفوضى العابثة، ولم يزل يترنّح ذات اليمين وذات الشمال، وأصبحت تركته التاريخية والحضارية تتلاعب بها تركته الحالية وترميها كريشةٍ في مهبّ الرياح. في منطقتنا للقتل ألف سببٍ وسبب، في منطقتنا للتناحر ألف سببٍ وسبب، في منطقتنا للخرافة بابٌ واسعٌ وللعقل خرمٌ ضيّق، في منطقتنا تخلّفٌ في التعليم والإنجاز والإبداع، وتفشٍ للجهل والتخلّف والجمود، في منطقتنا فتاوى التكفير والقتل تباع بالجملة وتوزّع دون حساب، في منطقتنا تفشٍ للوصاية على حرية الفرد من شتى النواحي، في منطقتنا الكثير مما يؤذي ويؤلم، وعلينا الاعتراف بهذا كلّه حتى نضع أقدامنا على أول طريق الحلّ. من عامٍ مضى لعامٍ نستقبله، ما أثقل التركة! وما أعزّ الحلّ! ونخطئ كثيراً في حقّ 2010 حين نطالبه بإصلاح كل هذه التركة الثقيلة، إنّ بإمكانه أن يكون جزءاً من حلٍ كبيرٍ وشاملٍ ولكنّه لن يكون الحلّ كلّه، بإمكانه أن يكون خطوةً على الطريق للأفضل وليس بإمكانه أن يكون الطريق بكامله. من الضروري أن نفهم الواقع حتى نحسن التعامل معه بلا يأسٍ، وإن كان سوداوياً فإن علينا أن نحتفظ بالأمل في القدرة على تغييره للأفضل، فكما في المثل لا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة، وحين ننحاز للحياة فإن القضاء على اليأس وبواعثه مهمةٌ جليلةٌ وهدفٌ يستحق التعب لأجله. إنّ النوايا الحسنة لا تبني للنجاح طريقاً ولا تصنع للتقدّم مناراً، بل الأفعال والبرامج والمشاريع المنظّمة والمخططة بحكمةٍ وعنايةٍ هي القادرة على صنع ذلك، وهذه وإن لم تزل شحيحةً كصدقة البخيل، فإنها في تنامٍ وإن كانت علة تشتتها وتفرّقها لم تلتق بعد بحلها المخلّص، ولم تزل يداها تختلف في الهواء دون أن تمسك بحبل النجاة.