يرى الناس الموت في السعي من شدة الزحام. وما ذاك إلا لاعتقادهم أن السعي ركن لا يصح الحج بدونه، وهذا تعميم غير صحيح. مع أنه ما قال بركنيته إلا الشافعي بحديث مضطرب وأحمد في رواية من ثلاث. أما الجمهور فالسعي عندهم إما أنه سنة لا شيء في تركه، أو أنه واجب لا شيء في تركه بعذر أو يجبر بدم لغير عذر. قال ابن قدامة في المغني (3/389): (وروي عن أحمد أنه أي السعي سنة لا يجب بتركه دم. وروي ذلك عن ابن عباس وأنس والزبير وابن سيرين ). وقيل في الرواية الأخرى أنه واجب يجبر بدم إن تركه لغير عذر، كما ذكره المرداوي في الإنصاف (4/44) وابن مفلح في الفروع (3/525) وأبو حيان في البحر (2/66) وابن نجيم في الرائق (2/357) والكاساني في البدائع (2/133). قال الكاساني: إن تركه لعذر فلا شيء عليه وإن تركه لغير عذر لزمه دم). وهل ثمة عذر هذه الأيام أكبر من مواجهة الموت؟!! ومن قال بأنه سنة لا شيء في تركه كما هو الحال عند أحمد في الرواية الأولى استدل بقوله تعالى: «فلا جناح عليه أن يطوف بهما». قال ابن قدامة، المغني (3/389): (ونفي الحرج عن فاعله دليل على عدم وجوبه، فإن هذا في رتبة المباح ... وروى في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود: (فلا عليه ألا يطوف بهما..) وهذا إن لم يكن قرآنا فلا ينحط عن رتبة الخبر). وقال أبو حيان في البحر المحيط (2/66): ( ... فإذا كان السعي مباحا كنت مخيراً بين فعله وتركه). ثم في تمام الآية نص في موضع النزاع وهو قوله تعالى: (ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم). والتطوع معناه الإتيان بشيء من العبادة من غير إيجاب. وروح الآيات في هذا الموضوع لا تسع شيئا من التكليف ولا الإيجاب بل هي مفعمة برائحة التيسير والتسهيل. بل قد ترك بعض الصحابة السعي في حجهم مع أبي بكر (البخاري) وما أمرهم الرسول بإعادة الحج ولا بدم، لإتمام الحج لو كان ناقصا بترك السعي، كما ذكر القصة ابن عاشور في التحرير (2/60) وابن عمر في الفتوحات (1/126) والبيضاوي في شرح الشهاب (2/430). وقد تحرج هؤلاء الصحابة من فعل هذا السعي لأنه في الجاهلية كان على جبلي الصفا والمروة صنمين لإساف ونائلة وكانوا يسعون بينهما فامتنعوا عن السعي لذلك السبب. ولما رجعوا إلى المدينة ذكروا ذلك للرسول، فأنزل الله الآية. وسؤال الصحابة هنا هو موضع البيان والحاجة إليه. فلو كان واجبا لجاءت الآية بالأمر الجزم عند هذا السؤال. وتأخير البيان عنه وقت الحاجة لا يجوز كما قاله البصري في المعتمر (1/342) وأبو يعلى في العدة (3/724) والجويني في البرهان (1/166) وآل تيمية في المسودة (181). إذاً فليس ثمة وجوب في نص الآية. بقي فعل الرسول وقد سعى بين الصفا والمروة في حجة الوداع وكل عمراته السابقة، وقال عليه الصلاة والسلام: «خذوا عني مناسككم». فهل يحمل هذا القول محل الوجوب. الذي عليه أئمة الفقه وأصوله أن فعل الرسول المجرد عن القول لا يحمل على الوجوب ولا الاستحباب حتى لو كان في هذا الفعل معنى من معاني التقرب إلى الله. وقال بعضهم غاية ما فيه أنه يحمل على الندب، كما قاله الآمدي في الأحكام (1/174) والمحلي على جمع الجوامع (2/99) وأبو يعلى في العدة (3/737). بل نقل أبو يعلى عن أحمد أن (.. أفعال الرسول ليست على الإيجاب إلا أن يدل دليل على ذلك). يؤيد هذا أن الرسول قد فعل أفعالا كثيرة في حجة الوداع ومع ذلك لم يكن لأي شيء منها حكم الوجوب. فقد طاف بالبيت عند القدوم وليس هذا الطواف بواجب وصلى في الكعبة وبدأ الطواف من عند الحجر الأسود وبات ليلة التاسع في منى وصلى فيها الخمس الفروض وصلى خلف المقام وطاف بالبيت راكبا ونزل بالمحصب. ومع ذلك لم تكن هذه الأفعال واجبة بل لم تبلغ حكم الاستحباب. وأما حديث بنت أبي شجراء الذي رواه ابن ماجة من قول رسول الله: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي»، ففي سنده ابن الموئل وقد ضعفه بن المنذر والنسائي والدار قطني كما نقله عنهم ابن الهمام في الفتح (2/412). وقال عنه أحمد إن أحاديثه منكرة. ثم حتى لو كان هذا الحديث صحيحا فإنه يكون معارضا بما هو أقوى منه وهو الآية ومقتضاها رفع الحرج عن الفعل أو الترك، فلا يكون لهذا الحديث إعمال في هذه المسألة. بقي حديث عائشة وقولها لعروة إنه ما تم حج امرئ إلا بالسعي. فعليه أن الحج ناقص وليس باطل، وهذا هو حال الوجوب. والواجب لا شيء على تاركه للعذر ويجبر بالدم لغير عذر، وليس ثمة عذر في أيامنا هذه أكبر من مواجهة الموت من شدة الزحام. ثم إن هذا الحديث على فرض إعماله فهو مذهب عائشة ويقابله مذهب فريق آخر من الصحابة ممن قالوا أنه لا شيء على تاركه، منهم ابن عباس وأنس والزبير. وقد تفردت عائشة بكثير من الأحكام الفقهية مثل إرضاع الكبير مما كانت فيها في مخالفة لها مع فريق من الصحابة، وهذا الاختلاف من رحمة الله على العباد، فإن فيه جواز الأخذ بالأيسر، لاسيما في الحج. ولا تكاد تخلو مسألة فقهية من الخلاف. وقد بذلت امرأة بضعها لراع في الصحراء لتنقذ نفسها من الموت عطشا ولم يؤاخذها ابن الخطاب في شيء كما نقله الشاطبي في الموافقات، مع أن ارتكاب المحرمات أكبر عند الله من ترك الواجبات كما قاله ابن تيمية في الفتاوى (13/125). ثم ترى الموت هذه الأيام يقصف أرواح المسلمين من شدة الزحام في الطواف أو السعي أو الجمرات والعلماء يصرخون لحمل الناس على السعي وهو لا يعدو عن كونه سنة من السنن مع أن حفظ النفس أكبر عند الله من حفظ السنن والواجبات بل والعبادات بل حتى لو نطق بكلمة الكفر حفاظا على نفسه لما كان له عند الله إلا الإعزار بل ربما الثواب كما قال تعالى: «من كفر بالله بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان». فالواجب على القائمين على منابر الإعلام اختيار الأيسر للناس والأسهل وهو منهج الرسول عليه الصلاة والسلام لاسيما في الحج وهذا هو روح الشريعة وعليهم الإقلاع عن اللت والعجن في أن التشديد في الفتاوى أحوط للمكلف وأكبر أجراً فهذا معتقد فاسد كما قاله الشاطبي في الموافقات (2/131) ويرده قوله تعالى: «ما جعل الله عليكم في الدينِ من حرج». فاكس: 6975040 [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 148 مسافة ثم الرسالة