نصف قرن من حياته التي تجاوزت ثمانين حولا لم يسأم خلالها علي عبده من التنقل على طول الشريط الحدودي يبيع خرافه حديثة الولادة من قطيع ماشيته الصغير لسكان القرى السعودية. اعتادوا عليه وأصبح جزءا كبيرا من ذاكرتهم، فيما هو يقتات من أموالهم ومحبتهم له ما يعينه على قضاء حوائجه وأسرته بهدوء، إذ لا شيء يثبت هويته. والآن .. نزح السكان من قرى منطقة الخوبة حيث مصدر رزقه، ليجد علي نفسه في خطر، مقررا ترك مسكنه الذي قضى فيه سنوات عمره، لتقوده قدماه في رحلة النزوح بين الأودية والشعاب بحثا عن مكان يأويه. أخيرا .. حط علي رحاله في إحدى أودية قرية قزعة (جنوب غربي مصنع إسمنت الجنوب)، ليمكث فيها ثلاثة أيام، نفدت فيها مؤونته من الطعام والشراب الذي بحوزته، لتقع عيون جنود القوات المسلحة السعودية عليه وهو ممدد على الأرض، حيث سارعوا في انتشاله من الوادي وإنقاذه من الموت. «عكاظ» التي حضرت المشهد رصدت الموقف الإنساني للجنود البواسل وهم يحملون علي بين أيديهم ويقدمون له الماء والعصائر والمأكولات التي تساعده على حمل ما تبقى من خريف جسده والسير به نحو مكان أكثر أمنا. يقول علي: أتذكر اليوم الذي دخلت فيه الأراضي السعودية قبل 30 عاما باحثا عن فرصة عمل، كنت ما أزال قويا، وتنقلت بين القرى والمزارع أرعى الأغنام إلى أن استقر بي الحال مع مقاول واكتسبت منه مهنة النجارة والحدادة، وجمعت بها مبلغا من المال وعدت به إلى اليمن وتزوجت ابنة عمي وأتيت بها إلى المملكة في هجرة أخرى «يبدو أنها الأخيرة لي». وهنا تدمع عينا علي إذ توفيت زوجته حسنة بعد ثلاث سنوات من زواجهما، ليتزوج ابنة صديقه مقررا عدم العودة إلى اليمن واستقر في منطقة الحدود حيث وجد فيها نفسه وانشغل في ل بحثا عن لقمة العيش. ويتابع: تغيرت حياتي مع إصابتي بمرض السكر والضغط الذين عجلا بأمراض الشيخوخة، ولم أعد قادرا على ل وأصبحت أعتمد في حياتي على المال الذي جمعته في أيام الشباب، واشتريت عددا من الأغنام وأصبحت فيما بعد الغنيمة الذي أصرف منه على حياتي. ويتذكر بحرقة كيف توفي والداه وهو صغير، ليتربى في منزل جدته وعاش طفولته بين الفقر والتسول وعدم وجود فرص عمل ما جعله يتردد باستمرار على القرى الحدودية، ورغم ذلك يقول علي: لم أقبل دعوة المهربين للعمل معهم ببيع الأسلحة أو القات. وهنا يلتقط علي أنفاسه ويقول: نصف أقاربي سعوديون والنصف الآخر من اليمن، لكنني أفضل البقاء في هذا البلد الذي قدم لي الكثير من الخيرات، ويعود علي لموجة البكاء وهو يقول: كان حلمي أن أؤدي فريضة الحج لكنني لم أتمكن من الذهاب إلى مكةالمكرمة خشية أن يقبض على وأعود إلى اليمن، حيث لا أحمل إقامة نظامية تمكنني من التنقل. وقبل أيام يتابع علي شاهدت الناس يغادرون منازلهم وترحل ولم أعرف السبب، وسمعت أصوات الأعيرة النارية، شعرت بالخوف وخصوصا مع حلول المساء الذي يرتفع فيه السكر لدي، فقررت الرحيل معهم خشية أن أموت على فراشي، تاركا ورائي ماشيتي التي أملكها. وفي لحظة غير متوقعة قال علي: لا أندم على شيء إلا على عدم حصولي على الجنسية السعودية كغيري ممن حصلوا عليها في ذلك الوقت، مرخيا عينيه إلى البعيد فيما دمعة حارقة تجري بهدوء على خده الأيسر.