الخطاب الإعلامي في عصر الفضائيات مؤثر جدا، والسبب أنه وضع في حساباته القيم والاعتبارات الثقافية والاجتماعية للجمهور أو رجل الشارع، وتوجه إلى الإنسان المجرد من أي امتيازات أو القاب أو مناصب، واجتهد في نقل همومه ومشاكله وتجاربه الشخصية، أو بعبارة أدق، فرض عليه هموم وتجارب مربحة ولها شعبية، وهذه الممارسة لم تكن معروفة في الإعلام القديم الذي اختصر كل شيء في شخص الدولة المركزية أو «الأبوية» ومصالحها الانانية أحيانا، وذكر ميشال فوكو في: «العقلية الحكومية- 1979» بأن الخطاب المؤدلج يوفر أداة للضبط والرقابة الذاتية و يعمل بطريقة «الريموت كنترول» والمعنى تغير في الايديولوجيا الصحافية المحسنة أو المعدلة وأصبح منحازا إلى «الذات الصغيرة» وعامة الناس ولم يعد يهتم ب «الكائنات المنتفخة» أو أصحاب «الذوات الكبيرة»، اما طلبا للسلامة أو لأن الجمهور أشبه ما يكون ب «الجدار القصير» الذي يمكن الصعود عليه والكلام باسمه وكتم أنفاسه بسهولة، مع العلم ان التسبيح بحمد «الذوات الفخمة» موجود عند الاستفادة منهم ماليا أو إعلانيا، وفي الحالة الأخيرة تكون التغطيات اما إيجابية او سلبية، ولا توجد مناطق رمادية أو حلول وسط، وقال فان دايك حول الموضوع الثاني (1991) ان المصدر الذي يفتتح الخبر يحدد اولوياته ومساراته والأسلوب المقترح لفهمه وتفسيره، والفكرة نفسها تكلم عنها جاي توشمان في كتابه: صناعة الأخبار (1978) فقد لاحظ بأن المواد والتغطيات الإعلامية وان تتنوعت او تعددت مصادرها الاخبارية لا تخرج، في العادة، عن تعريفات وتصورات المصدر الاخباري الأول أو المحرك الرئيسي للخبر. مرة أخرى، الخطاب الإعلامي المطور، مهما كانت انتماءاته السياسية او المصلحية، يأخذ في رأي غاي ريدن(2002) بأيديولوجية «الليبرالية الجديدة» وما تنطوي عليه من شخصنة وحرية «كرتونية» وواقع استهلاكي ضاغط، لايمكن الوقوف في وجهه او الاعتراض عليه، وحتى الهوية التي تنافست التلفزيونات والإذعات الحكومية او شبه الحكومية على تكريسها والإصرار عليها في الماضي، بدأت في الذوبان والتحلل، وصارت المحطة أو الإذاعة أو الجريدة المستقلة نسبيا أو صاحبة الجنسية المفتوحة، بطاقة هوية لمن يتابعها أو يحتفل بطروحاتها وخطها التحريري أو ربما السياسي، والسابق من «بركات» الرأسمالية وقيم الاستهلاك، ويمكن الوقوف عليه في رمضان وفي غيره، وفي البرامج الدينية والدراما التلفزيونية والمسابقات المليونية المتلفزة أو المطبوعة، وعن الهوية قالت كاثرين وودورد(1997) بأن الشخص الواحد يقبل اكثر من هوية، اي انه قد يلبس هوية في مكان عمله وهوية ثانية في بيته وثالثة مع أصدقاءه او هوية للاستهلاك المحلى وأخرى للتصدير وهكذا. نظريا تقوم المؤسسات الاعلامية في الوقت الحالي، بدور الطبيب او الاخصائي النفسي الذي يشخص الجروح والكوابيس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويحاول تفسيرها وتقديم حلول مناسبة لها، وتفترض هذه المؤسسات ان جمهورها لا تقيده حدود على خارطة ورقية او رقمية او جنسية في جواز سفر، وان المتابعين، أيا كانوا، محكومون بمبادئ ومثاليات عامة ومشتركة يلتزمون بها ويحترمونها ولو اختلفت مصادرها او تراوحت بين الديني والدنيوي، كما انها تتعامل مع المشاكل بوصفها «أمراضا» تحتاج الى ادوية ومضادات حيوية وفيتامينات ومقويات او «فياغرا» وفي بعض الحالات «صدمة كهربائية» وطبقا لهذا الفهم فالمعالج او «الإعلام» يقدم برامج علاجية جادة ومتوازنة إلى حد ما ل «المريض» او الجمهور، تدور حول المرض او المشكلة وأسبابها، ما يعني ان دخولها في السلبيات و الامور المستفزة يأتي من باب الاعتراف بالخطأ ومحاولة إصلاحه لا أكثر ولا أقل، وأيضا لأعطاء المتابعين او «مجتمع المرضى» مساحة كافية يستطيعون من خلالها تحديد مواقفهم مما يشاهدون أو يسمعون ويقرأون، ومن ثم بناء واقعهم الخاص بدون ضغوطات او إملاءات، وكتبت باربرا بوتراتا (2002) بأن الايديولوجيا الجديدة في الإعلام الجاد تهتم بمعالجة كل أطراف الخبر أو القضية الإعلامية حتى ولو جاء بعضها متطرفا او متحاملا في مواقفه، و الإضافة انها عمليا، تفعل العكس تماما، وتخترع المشاكل وفي يدها حلول معلبة وجاهزة للاستخدام، ومن البقرة إلى المائدة، والمذكور لا علاقة له بالقرآن الكريم وإنما كان شعارا لإعلان تجاري عن الألبان، وعبارة «انها عمليا» تقوم مقام «لكن» هنا وكلمة «لكن» صعبة اذا حضرت بصيغة الاستثناء في مادة صحافية او مقالة رأي، كأن يكتب، على سبيل المثال، بان (س) تاجر ولكنه متواضع ونزيه، والاستثناء في هذه الحالة يعني ان التجار في الغالب ليسوا كذلك، ونورمن فيركلف تناول موضوع الاستثناءات ودورها اللغوي الخطير في الخطاب الإعلامي في مؤلفه: تحليل الخطاب (2003). المفارقة ان الصحافيات او الإعلاميات العربيات والغربيات يشكلن نسبة كبيرة من انصار الفكر الاعلامي في ثوبه او «فستانه» الجديد، لانه يرتبط مفصليا بالافكار النسوية والرومانسيات والمبادئ والشعارات «العجائبية» والفضفاضة، ويدندن على وتر العاطفة والبكائيات، مع أنه في جانب مواز يركز على «الشخصانية» و «الثقة» وكلاهما له علاقة ب «الذكورية» و «الفحولة» في الثقافة الغربية قبل العربية. اخيراً، المنطق الاستهلاكي في زمن المعلوماتية هو المفتاح السحري او اكسير الحياة لوسائل الإعلام التي لا تعتمد بصورة أساسية على الإعانات الحكومية، وتبحث بجنون وهوس لا تحسد عليه عن الربحية والمكاسب التجارية، وتتمسك بالشكل المبهر والمحتوى الفارغ والأخبار الرخيصة والمكررة، خصوصا في موسم التخفيضات «الأخلاقية» الذي يطل برأسه كل رمضان...! binsaudb@ yahoo.com للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 107 مسافة ثم الرسالة