عشت كثيرا مع سير العلماء والمصلحين، وخاصة أئمة المذاهب الأربعة المتبوعة في العالم الإسلامي عبر التاريخ، ووجدت أن سيرهم مدارس في التربية والسلوك والأخلاق؛ كما هي مدارس في المعرفة والتعليم، بل إنها تؤسس لانطلاقات جديدة حضارية في البيئات التي تهيمن عليها، متى أحسن الناس قراءتها وفهمها. ومن هذا المنطلق كتبت ورقات في سيرة كل إمام منهم، حاولت أن تكون جامعة بين المتعة والفائدة والتوثيق، ثم أعدت النظر فيها لاستخراج الجوامع والفروق، التي تؤكد على وحدة المنطلقات والأصول في هذه المدارس الفقهية، وتنوع الاجتهادات والآراء تحقيقا لمعنى الرحمة والسعة، ومراعاة اختلاف البيئة والظرف، فيما أذن الله تعالى أن يختلف الناس فيه، حيث تسعهم شريعة ربهم في بحبوحتها وامتدادها، حين يضيق بهم المذهب الخاص الذي يتكئ على الشريعة، ولكنه لا يدعي الإحاطة بها، والتعبير التام عنها. هذه الورقات تحاول تأييد الاتباع المشروع لهؤلاء الأئمة (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) وتثني عليهم الخير كما هم أهله، وتقطع الطريق على من ينتقصهم أو يحط من قدرهم، كما نحاول أن ننأى عن مسلك التعصب لواحد منهم أو لمجموعة، أو توهم العصمة لأقوالهم، أو تحويل الانتماء للمذاهب إلى سبب للكراهية والبغضاء والتنابز كما وقع في بعض مراحل التاريخ ولا يزال طرف منه في بعض البيئات إلى اليوم، ولعله يتكرر كلما توجه الناس إلى التدين والبحث عن المعرفة الشرعية، مما يستدعي حديثا مستفيضا عنه، وتحذيرا دائما من مغبته. هذه الأوراق هي عرفان بحق هؤلاء الأعلام، وأداء لبعض الواجب تجاههم، وتأول لقول الله تعالى في كتابه العزيز : (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالأيمانِ ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم). هي إعلان بالمحبة لهم، والثناء عليهم، والدعاء والترحم، ومحاولة للتأسي بهم، أسأل الله تعالى أن يتقبلها، وأن يمنحها القبول لدى الصالحين من عباده وهو يقول الحق وهو يهدي السبيل. جوامع الأئمة يجتمع هؤلاء الأئمة في الأصوال والكليات العقدية، والإيمان المطلق بمرجعية الشريعة، قرآنا وسنة، ونقلا متواترا عن السابقين، وثناء على الصحابة المهديين، من الخلفاء الراشدين، والعشرة المبشرين، وأمهات المؤمنين، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أجمعين. كما يقع لهم التنوع في المذهب والمشرب، والطبع التكويني والجبلة النفسية والميل والمزاج، والرأي والعلم، والاعتبار والنظر، وهذه أهم الملحوظات في جوانب الاتفاق والافتراق، ليتأسى بها الخالفون، فيقفون عند مواطن الاتفاق احتراما وإجلالا، ويتقبلون مواضع التنوع والافتراق توسعة ورحمة وتجنبا للفتنة. 1 - أعظم الجوامع هو اتفاق جمهور الأمة على إمامة الأربعة وجلالتهم، ومكانتهم مع العلم والدين؛ مما حفظ لهم مكانة عظيمة في نفوس المسلمين وجعل أتباعهم أغلب الأمة على مر السنين، وغرس محبتهم لدى الخاص والعام. إن منصب الإمامة في الدين لا يمنح إلا لمن يستحقه، كما قال سبحانه: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) ولذا قال سفيان بن عيينة رحمه الله: عند هذه الآية : «لما أخذوا برأس الأمر جعلناهم رؤوسا (1)» ولهذا (بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين). ولقد كتب الله الذكر الحسن والثناء الباقي والرضا والقبول والدعاء لهؤلاء الأئمة، وذلك كله من لسان الصدق: (واجعل لي لسان صدقٍ في الآخرين) وتلك آية على تحقق خصال وصفات فيهم ظاهرة وباطنة جعلتهم أهلا لتلك المكانة، والله تعالى لا يسخر قلوب عباده عبر القرون والأجيال، وفي سائر الأقطار والأمصار، حبا واتباعا وحسن ظن وثناء إلا لمن رضيهم سبحانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدا نادى جبريل: إن الله قد أحب فلانا فأحبه. فيحبه جبريل. ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله قد أحب فلانا فأحبوه. فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في الأرض»(2). وكما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه، وقد مرت جنازة، فأثنوا عليها خيرا فقال: «هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة... أنتم شهداء الله في الأرض»(3). وفي الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم: «أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة...» الحديث(4). مع أن من يشهد لهؤلاء الأئمة ليسوا هم عوام المسلمين فحسب، بل وخواصهم من أهل الديانة والعلم والفقه. وقد توفر لكل مذهب من الشراح والمدونين والعلماء الراسخين من هم بأعلى المقامات، وكل مذهب هو مدرسة تاريخية تعاقب على دخولها الجم الغفير من الأفذاذ، وتخرج منها الأذكياء الحذاق، وتزاحمت رفوفها بالكتب النادرة، والمؤلفات العظيمة. 2 - ولا يلزم من ذلك أن يكون الحق محصورا في مذاهبهم كما اختاره قوم، بل في مذاهب الصحابة والتابعين ومن بعدهم ما هو أوسع، وأقوم بالحجة، وأقدر على الاستجابة لمتغيرات الزمان والمكان والأحوال. وقد كتب الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي رسالة عنوانها: (الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة)، شدد فيها على وجوب اتباع هؤلاء الأئمة دون غيرهم، مستشهدا باجتماع المسلمين على حرف واحد من حروف القراءة، بعدما كانت الأحرف متعددة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، واجتماعهم على الصحيحين والسنن الأربع بعدما تفرق الرواة وخشي اختلاط الصحيح بغيره. وأثنى على مقام الأئمة الأربعة، فقال رحمه الله : (اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن ضبط الدين وحفظه؛ بأن نصب للناس أئمة مجتمعا على علمهم ودرايتهم وبلوغهم الغاية المقصودة في مرتبة العلم بالأحكام والفتوى من أهل الرأي والحديث). ونحن نرى أن الحق لا ينحصر في الأئمة الأربعة، كما نرى أن تقليدهم غير واجب، وهم أنفسهم كانوا ينهون عن ذلك، ويأمرون الناس بالرجوع إلى القرآن والحديث، كما قال أبو حنيفة: (إذا جاء الحديث الصحيح أخذنا به، وإذا جاء عن الصحابة تخيرنا، ولم نخرج عن أقوالهم، وإذا جاء التابعين زاحمناهم). وقال مالك : (ما منا إلا راد ومردود عليه). وقال الشافعي: (إذا صح الحديث فهو مذهبي). وقال أحمد في كلمته الشهيرة: (لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي) (5). بيد أن معظم الفروع الفقهية ترجع إلى مذاهبهم، وقد حظيت تلك المذاهب من التأصيل والتقعيد والإلحاق والتفريع، فضلا عن التدوين والضبط بما لم يحظ به غيرها، فقد أقام الله لهم من يضبط مذاهبهم ويحرر قواعدهم، حتى حفظ مذهب كل إمام منهم بأصوله وقواعده وفصوله، حتى يضبط الكلام في الحلال والحرام. وهناك مذاهب أخرى كمذهب الأوزاعي والظاهرية، فضلا عن مذاهب الفرق الإسلامية الأخرى والتي تتشابه من حيث الجملة في الفروع الفقهية، وفي كثير من الأصول الفقهية أيضا إلا أنها لم تحظ بنفس الاهتمام التي حظيت به المذاهب الأربعة (6). (1) عدة الصابرين لابن القيم (ص/109) وانظر إعلام الموقعين (5/573). (2) أخرجه البخاري (3209) واللفظ له، ومسلم (2637). (3) صحيح البخاري (1367)، صحيح مسلم (949). (5) مناقب الأئمة الأربعة لابن عبد الهادي (ص/71. (6) الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة (ص/28).