3 وقد يجد بعض المتعصبين للمذاهب في تلك الثروة الواسعة بعض ما يزكي تعصبهم، بيد أنهم لو أنصفوا واعتدلوا لأخذوا البحر وتركوا القنوات، ولزموا سواء السبيل، وأعرضوا عن الشذوذات والأقوال الغريبة التي تنغمر في لج الأقوال الصالحة السديدة، وهو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. كما يجد متعصبون آخرون ضد المذاهب من تلك الأقوال ما يجعلهم يسيئون الظن بالمذاهب جملة ويحاربونها، ويعدون التمذهب في أصله ضلالا وانحرافا عن سواء السبيل. عليك بأوساط الأمور فإنها نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا(1) وقد كتب الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي رسالة عنوانها: (الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة)، شدد فيها على وجوب اتباع هؤلاء الأئمة دون غيرهم، مستشهدا باجتماع المسلمين على حرف واحد من حروف القراءة، بعدما كانت الأحرف متعددة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، واجتماعهم على الصحيحين والسنن الأربع بعدما تفرق الرواة وخشي اختلاط الصحيح بغيره. وأثنى على مقام الأئمة الأربعة، فقال رحمه الله: (اقتضت حكمة الله سبحانه أن ضبط الدين وحفظه؛ بأن نصب للناس أئمة مجتمعا على علمهم ودرايتهم وبلوغهم الغاية المقصودة في مرتبة العلم بالأحكام والفتوى من أهل الرأي والحديث)(2). ونحن نرى أن الحق لا ينحصر في الأئمة الأربعة، كما نرى أن تقليدهم غير واجب، وهم أنفسهم كانوا ينهون عن ذلك، ويأمرون الناس بالرجوع إلى القرآن والحديث، كما قال أبو حنيفة: (إذا جاء الحديث الصحيح أخذنا به، وإذا جاء عن الصحابة تخيرنا، ولم نخرج عن أقوالهم، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم). وقال مالك: (ما منا إلا راد ومردود عليه). وقال الشافعي: (إذا صح الحديث فهو مذهبي). وقال أحمد في كلمته الشهيرة: (لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي)(3). بيد أن معظم الفروع الفقهية ترجع إلى مذاهبهم، وقد حظيت تلك المذاهب من التأصيل والتقعيد والإلحاق والتفريع، فضلا عن التدوين والضبط بما لم يحظ به غيرها، فقد أقام الله لهم من يضبط مذاهبهم ويحرر قواعدهم؛ حتى حفظ مذهب كل إمام منهم بأصوله وقواعده وفصوله، حتى ترد إلى ذلك الأحكام يضبط الكلام في الحلال والحرام(4). وهناك مذاهب أخرى كمذهب الأوزاعي والظاهرية، فضلا عن مذاهب الفرق الإسلامية الأخرى والتي تتشابه من حيث الجملة في الفروع الفقهية، وفي كثير من الأصول الفقهية أيضا إلا أنها لم تحظ بنفس الاهتمام الذي حظيت به المذاهب الأربعة. 4 امتدادا لهذا المعنى فإن منزلة اليقين التي هي جزء من شرط الإمامة تعني الإيمان الحق بالله، وبما عند الله، ووعده ووعيده، وأنبيائه ورسله، وكتبه وشرائع دينه، وأولئك الأئمة حازوا على درجاتها العليا، بصدق الاعتقاد وصحته، وملازمتهم للكتاب والسنة. إن الإمامة منصب ديني لم يحصلوا عليه بمرسوم سلطاني، ولا بثراء مادي، ولم ينالوه ثمرة للشهرة، ولا حتى بالعلم المجرد، فقد يكون في الناس من هو أوسع منهم (معلومات) ولكنهم جمعوا بين العلم والعمل، وكما قيل: (هتف العلم بالعمل؛ فإن أجابه وإلا ارتحل)(5). مواعظ الواعظ لن تقبلا حتى يعيها قلبه أولا يا قوم هل أظلم من واعظ خالف ما قد قاله في الملا أظهر للعالم إحسانه وخالف الرحمن لما خلا(6) ففي الإمامة معنى القدوة والتأسي والاتباع والحجية، وهذه متصلة بصفاء الروح ونقاء السريرة وصدق القلب، وثلج الصدر بالإيمان . 5 ومن خصائصهم الأخلاقية: الصبر، فإنهم جميعا يصدق عليهم أنهم ممن ابتلي فصبر، وقد سئل الشافعي رحمه الله: (أيما أفضل للرجل: أن يمكن أو يبتلى؟ فقال: لا يمكن حتى يبتلى)(7). ولقد مكن لهؤلاء الأئمة جميعا، ولكن بعد الابتلاء، فقد ضرب أبو حنيفة على القضاء، وجلد مالك في مسألة طلاق المكره، وسجن الشافعي وعرض على السيف فأنجاه الله، وسجن أحمد وجلد بما عد حادثة تاريخية مشهورة فيما سمي ب (فتنة خلق القرآن)، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا، والله يحب الصابرين. ولم يحدث أن انتقم أحد منهم ممن آذاه، ولا تظلم فيه، بل قد جعلوا كل من آذاهم في حل، وتجاوزوا القضية ونسوها كأن لم تقع. وهذا إنما يصدر من أصحاب النفوس الكبيرة التي لا تقف عند حظوظها الذاتية، ولا تحسب أن مدار الأمر على الانتصار الشخصي. إن إثارة المعارك حول ظلم شخصي حاق بهذا الرجل أو ذاك لم يكن من وكدهم ولا ديدنهم، فرسالتهم كانت أبعد من ذلك، وهمهم أوسع، وقدوتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جرح وهو يقول: (هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت)(8). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «فهذا الإمام مالك بن أنس، توصل أعداؤه إلى ضربه بأن قالوا للسلطان: إنه يحل عليك إيمان البيعة بفتواه، أن يمين المكره لا تنعقد، وهم يحلفون مكرهين غير طائعين، فمنعه السلطان، فلم يمتنع لما أخذه الله في الميثاق على من آتاه الله علما أن يبينه للمسترشدين، ثم تلاه على أثره محمد بن إدريس الشافعي، فوشى به أعداؤه إلى الرشيد، أنه يحل أيمان البيعة بفتواه أن اليمين بالطلاق قبل النكاح لا تنعقد، ولا تطلق إن تزوجها الحالف، وكانوا يحلفونهم في جملة الأيمان: «وأن كل امرأة أتزوجها فهي طالق»، ..فما فت ذلك في عضد أئمة الإسلام، ولا ثنى عزماتهم في الله وهممهم، ولا صدهم ذلك عما أوجب الله تعالى عليهم من اعتقاده والعمل به من الحق الذي أداهم إليه اجتهادهم، بل مضوا لسبيلهم، وصارت أقوالهم أعلاما يهتدي بها المهتدون، تحقيقا لقوله تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) (السجدة: 24)(9) 6 وكلهم كانوا من أوعية العلم، فأبو حنيفة فقيه أهل العراق بغير منازع، شهد له بذلك الجهابذة، ومالك فقيه المدينة والحجاز، ولم يفت حتى شهد له أربعون من علماء المدينة، وهو من أثبت الناس في الحديث، والشافعي إمام في العديد من العلوم، منها: اللغة والفقه والأصول، وهو من ثقات المحدثين، وأحمد كان من الحفاظ الكبار كما تشهد بذلك مصنفاته وسيرته ومروياته.. كانوا محدثين، وكانوا فقهاء، وإن كان أبو حنيفة إلى الفقه أميل، وأحمد إلى الحديث أميل، ومالك والشافعي وإن كانوا معدودين في مدرسة أهل الحديث إلا أن لهم عناية وبصرا وأخذا في الفقه قل نظيره.