لا شك أن اغتراب الكاتب أو هجرته خارج وطنه الأصلي يغذيه بالحنين، وربما يدفعه لكتابة نصوص متميزة قوامها ذلك الحنين الكبير لوطن ولد وتربى فيه، وعاش فيه كثيرا قبل أن يفارقه. وإذا نظرنا لكثير من النصوص العربية والعالمية التي كتبها مبدعون مغتربون أمثال كونديرا وماركيز في جزء من حياته في أوروبا، نجد تفاصيل مدهشة للوطن الذي تركوه خلفهم، تفاصيل لا يكتبها من يعيشون في الداخل ويصادفونها يوميا أثناء حياتهم وتجوالهم، ولا يعيرونها اهتماما كبيرا، وتتأجج مخيلاتهم إلى ما وراءها للعثور على تفاصيل غير موجودة أو غير ممكنة لرصدها في كتاباتهم. المشكلة هنا تكمن في مسألة العادية، أي ذلك الزخم اليومي المعتاد الذي لن يصلح في رأيهم مادة لنص ممتاز، نص يطالعه القارئ ويندهش؛ لأن القارئ نفسه جزء من ذلك الزخم، ولا يحتاج لمن يكتبه له حتى يقرأه. وبهذه النظرة تضيع عوالم ثرية ربما تدهش حتى ذلك القارئ المتوفر فيها؛ لأن القارئ ليس بالضرورة منتبه لكل شيء، ولا يملك يقينا حس المبدع أو ذاكرته ليصنع أحداثا يقرأها بنفسه. في الكتابة العربية توجد تجربة الليبي إبراهيم اىلكوني، تلك التجربة الكبيرة المتسعة المدهشة التي صاغ في داخلها عشرات الكتب، ولم تكن خارج الوطن بينما هو في الحقيقة خارج الوطن، تلك الأساطير الغنية والميثلوجيا الصحراوية التي لن يقرأها الذين في الداخل كما قرأها، ولن يعيدون إنتاجها كما أعاد هو إنتاجها، فكتابات مثل (الورم) و (المجوس) و (خريف الدرويش) وغيرها من الروايات والسير إنما هي حصيلة لحنين جارف يدفع للكتابة دفعا، وتدعمه الذاكرة المبدعة التي لا يسقط من جرابها خبر، ولا تتسرب من شقوقها قطرة مطر واحدة هطلت ذات يوم في صحراء جافة. وقد أدهشت تجربة ايلكوني الغربيين حين ترجمت إلى لغاتهم، وأظنها تدهش حتى الذين يعيشون وسطها داخل الوطن حين يلتفتون فجأة ليروا ما يرونه يوميا ولا يرونه حقيقة. وفي زياراتي المتكررة للسودان، كان الكثيرون يسألونني كيف أستطيع أن ألم بكل تلك التفاصيل وأكتبها في روايات؟ بينما أعيش خارج الوطن منذ سنوات طويلة ولابد قد ضاع مني الوطن. الجواب هنا كما أقول دائما يكمن في الحنين اليومي للوطن، الحنين في رأيي الشخصي دواء ضد العادية المعاشة وواحد من أهم وجبات الإبداع، لذلك ننتج روايات أكثر مما ينتج من لا يعيشون الحنين.