تبدأ المعاناة غالبا من شكوى أحد أصحاب المنزل من أعراض غريبة تصاحبها آلام وكوابيس مزعجة، يذهب على إثرها إلى الطبيب فلا تظهر الفحوصات أية نتائج. هنا يأخذ المريض عددا من المسكنات والأدوية دون أية جدوى.. فلا يبقى إلا الاحتمال الأخير، وهو ربما يكون المريض قد سحر أو مس أو أصيب بعين أو خلاف ذلك، فيذهب به أحد أقاربه إلى أقرب مركز للعلاج بالقرآن وهناك تظهر المفاجأة.. فعند قراءة الشيخ يضطرب المريض وينطق «الجني» على لسانه وفقا لكثير من المقتنعين بذلك وهنا تبدأ رحلة العلاج من شيخ إلى شيخ آخر ومن مدينة إلى أخرى قد قيل إن فيها شيخا معينا. وثمة من يرى أن لا جني ينطق بلسان إنسي، وأن من يسمون بالرقاة الكثير منهم ليسوا سوى دجالين ومشعوذين. وبهذه المعاناة يصطلي كثير من الناس من أوار هذه النار التي تحرق قلوب كثير من المرضى وذويهم وتستنزف جيوبهم، حتى عمت الفوضى وصارت المسألة استغلال بسطاء الناس وعامتهم في دفع المبالغ الطائلة بغية الشفاء من الأمراض الروحية. «الدين والحياة» استعرض هذه القضية واستفحالها وناقشها مع عدد من المهتمين فخرج بالآراء التالية: العلاج بالقرآن في البداية اعترف الباحث الشرعي وعضو هيئة التدريس في جامعة القصيم الدكتور عبد الله بن عمر السحيباني بوجود هذه الظاهرة وانتشارها في هذا الزمن مع وجود أمراض نفسية وعصبية، لذا يلجأ الناس لكل العلاجات الممكنة والمتيسرة، وكان من أيسر العلاجات وأنفعها العلاج بالقرآن، فقد ثبت في السنة أن قراءة آيات من القرآن على المريض تؤدي إلى شفائه بإذن الله، فهذه الحقيقة لا تقبل الجدل، فقد ظهرت على الناس ظاهرة خطيرة، حاول بعض ضعاف النفوس ومرضى القلوب استغلالها فأحدثوا في دين الله وشرعه ما لم يكن فيه، وتوسعوا في هذه الحقيقة حتى بلغوا أنواعا عريضة من الدجل والافتراء التي تمكنت من قلوب السذج وبسطاء الناس. وأضاف: الرقية الشرعية حقيقة لا خيال، وعلاج شرعي لا مرية فيه، لكن البلوى تكمن عند مستخدمي هذه الحقيقة، حين ظهر في القراء والرقاة من هم أقرب إلى الشعوذة والدجل والاستغلال منهم إلى النصح والعلاج وبذل المعروف، حتى امتهن القرآن الكريم، واستغل الناس اسمه. استغلال المرضى لقد كان جماعة من السلف من أهل العلم والإيمان والتقوى ينفعون الناس بقراءة القرآن على المصابين بالسحر أو المس أو العين أو المرض النفسي، وكانوا آية في طلب ثواب الآخرة والزهد في الدنيا، وتحري أكل الحلال، والبعد عن الاستغلال والجشع المحرم. واليوم نبتت في الناس نبتة غريبة تأكل أموال الناس بدعوى علاجهم، استغلالا للمريض، بأساليب وقحة لا يمكن أن تأتي بها تعاليم الإسلام، لقد وجد في كل بلدة من يمتهن هذه المهنة، وأصبحت هذه المهنة من أكثر المهن دخلا لأصحابها، بل ارتقى أصحاب هذه المهنة إلى رتبة المشايخ المبجلين والعلماء الكبيرين، كل ذلك من فتنة الدنيا التي قل من يسلم منها الكثيرين، ومع كل هذا فإن هناك رقاة من الصالحين الناصحين الخيرين وهو ما لا ينكره أحد، لكن بعض الناس يفسد على بعض، فهذا الواقع المرير هو الذي جعل بعض الجهات المسؤولة في الدولة تقف ضد هذه الظاهرة. تقنين الرقية الكاتب والقاضي في المحكمة العامة في الرياض الدكتور عيسى بن عبد الله الغيث حذر من الخلط في هذه المسألة قائلا ينبغي أن نفرق بين الرقية كعمل مشروع وبين الراقي إذ أن الراقي قد يكون موافقا في عمله للشريعة من عدمه. وأضاف: لا يملك أحد منع الرقية لكون الناس يرقون أنفسهم وغيرهم، لكنه يجب أن يكون هناك تقنين لهذه المسألة كممارسة وليس كأصل مشروعية، ولذا ينبغي إصدار لائحة تنظم هذا العمل ولكن لا تصرح له حتى لا تضيف المشروعية لممارسات غير مشروعة. فالمصلحة في نظري تقتضي عدم ترك الممتهنين للرقية دون رقابة وفي نفس الوقت عدم التصريح لهم وأيضا عدم منع من لم يخالف منهم، ويكتفى من الجهات المختصة بالرقابة عليهم وإنكار ما يقع من بعضهم. ومن وجهة نظر قضائية يقول: يحصل عند بعض الرقاة وخصوصا المتفرغين والممتهنين منهم لهذا العمل الكثير من المخالفات الشرعية من جميع النواحي، فمنها مخالفات أخلاقية بالاعتداء أو الاستغلال، ومخالفات مالية عبر الأجور الفاحشة والابتزاز والإثراء غير المشروع، ومخالفات أمنية كالزعم بأن فلانا سحرك أو أصابك بالعين والتحريض على الغير بلا بينة، كما تدخل فيها المخالفات الاجتماعية عبر إفساد العلاقات الأسرية والتهم المرمية بلا دليل، وأهمها المخالفات الدينية عبر السحر أو الشعوذة أو الدجل، وغير ذلك من المخالفات التي تحال الكثير منها من جهات البحث والتحري والضبط والقبض من الشرطة والهيئات إلى جهة التحقيق والادعاء العام في المحاكمة، لذا ينشأ عن هذه المخالفات قضايا حقوقية وجنائية خاصة وعامة، فتجد من يطالب الآخر باسترداد ما دفعه لكونه خالف الاتفاق، أو المطالبة بالعقوبة التعزيرية لقاء إحدى المخالفات المشار إليها، ففي حال ثبوت ما أسند إليه فيحكم بالتعزير المناسب الذي يحقق الزجر والردع ويرفع ويدفع الظلم والمنكر عن المجتمع وأفراده. ضرورة التمييز ودعا الغيث الناس إلى التمييز بين الراقي المتلاعب وغيره، مشيرا إلى أنه يجب ألا يعتمد على المعيار في الشكل الظاهري للراقي بل العبرة بسيرته ومسيرته وتزكية العارفين به، وأضاف: أنني أتحفظ ابتداء على وجود من يسمى بالراقي، لكون الرقية لكل أحد وليست لشخص دون غيره، وحينما فتح الباب لهذا الأمر شاعت الفاحشة وجلب الفساد على المجتمع وشوهت هذه العملية، فالأصل أن يرقي الشخص نفسه و أهله لا أن يتخصص البعض بذلك وتمتهن، فضلا عن حصول بعض الوقائع المنكرة والغريبة، فمثلا أحد الرقاة يجعل سعرا للرقية الخاصة بشخص واحد وسعرا إذا كانت لمجموعة، وأحدهم يرقي بالهاتف بل وربما رأيتم من يرقي عبر القناة الفضائية، فهذه مهازل ومنكرات جلبت تطرفا آخر من حانقين على الدين وشعائره ليسخروا من ذات الرقية ولم يقف عند حد الممارسات الهزيلة والمنكرة لبعض الرقاة. وطالب وزارة الشؤون الاسلامية التي ستقيم ملتقى لعلاج هذه القضية بفتح بوابة إلكترونية عبر موقع متخصص بهذه المهن ومنتديات مفتوحة للحوار وضبطها إداريا وشرعيا، وذلك للاستفادة من وسائل التقنية الحديثة والانعتاق من الوسائل التقليدية التي لا تحقق المستوى المأمول. أخطاء الرقاة أما الراقية حصة المزيد فقد أوردت عددا من الأخطاء التي يقع فيها الرقاة منها التسرع في تشخيص المرض ما يؤدي إلى التوهم، مبينة أهمية الحرص على العلاج وليس التشخيص، والخطأ الثاني استخدام النار في العلاج بحجة أنها تسهم في علاج الجن، فبعض الرقاة يخطئ في ادعاء رؤيته للجن وهذا فيه مخالفة لنصوص الشرع، وكذلك من الأخطاء التوسع في علاج النساء بالنسبة للرقاة فقد تتعرى المرأة أمام الراقي وهو ما يحدث في الغالب، وكذلك مس المرأة الأجنبية والنظر إليها لأن بعض الرقاة يتساهل في ذلك ويتخذها وسيلة للعبث بجسد المرأة استغلالا لحاجة الناس، ومن الأخطاء أيضا الضرب المفرط للمصروع، وكذلك الأمر بقراءة آيات لم يرد فيها نص بمشروعية الاستشفاء بها بزعم أنها تطرد الجان، وكذلك كتابة آيات من القرآن ثم حرقها بزعم تخويف الجان، وكذلك تصديق كلام المريض الذي ينطق بلسان الجان إلا عن قصد التأكد والتثبت من صحة الكلام وأقواله، وجمع المرضى في استراحة والقراءة عليهم جماعيا وهو ما لم يؤيده الشيخ ابن عثيمين رحمه الله الذي قال لا تأثير لهذه القراءة بل ينتقل المرض إلى جسد أحد مرافقي المريض فتحدث كارثة عظيمة. وأضافت: بعض الرقاة يصنع خلطات غريبة وهذا خطأ فإن الوارد في الاستشفاء في الأحاديث هو زيت الزيتون والعسل وماء زمزم والحبة السوداء فقط ولا صحة للمنتجات الخاصة التي تباع بأسعار باهظة ويراد منها استغلال حاجة الناس، ومن الأخطاء كذلك تعليق المرضى الجلود والتمائم والتعويذات بزعم أنها تحفظ من الشياطين وهذا خطأ كبير فبعضهم يدعي أن الجن تخاف من الذئاب ولا صحة لذلك، وكذلك تعليق صور القرود وحدوة الحصان وكف النحاس الذي في داخله عين الإنسان بزعم أن هذه الكف هي سورة الفلق بآياتها الخمس والعين هي عين الحاسد ويقولون «خمس في عيون الحسود» وكذلك تعليق الجماجم على البيوت والسيارات، والزرع والأصداف التي تخرج من البحر. توجيهات للمريضات ووجهت المزيد نصائح للمريضات بضرورة قراءتهن على أنفسهن أو من قبل إحدى قريباتهن بالإضافة إلى ترك الذنوب والإكثار من الطاعات وقراءة القرآن وتخصيص ورد يومي لذلك والمحافظة على الصلوات والحذر من الذهاب إلى الكهنة والعرافين حتى ولو من باب الاستطلاع، وعدم الذهاب إلى المعالجين والاكتفاء بعلاج النفس والإكثار من الأذكار وخاصة أذكار الصباح والمساء، محذرة في الوقت نفسه الفتيات من إبداء محاسنهن ومفاتنهن حتى لو أمام الأقارب لأن هناك عينا حاسدة وعينا معجبة، مشددة على الحرص على التحصين بالأذكار خاصة في هذه الأيام التي تكثر فيها المناسبات العائلية. سن الأنظمة ويرى الكاتب السعودي خلف الحربي أن هذه المسألة باتت أقرب إلى الدجل والشعوذة واستغلال الناس وقال وجد الدجالون والمشعوذون بيئتهم المثالية في شوارعنا وحققوا أرباحا طائلة لم يحققها هوامير المساهمات الوهمية ولا حيتان المشاريع العقارية، ولا حتى «جمبريات» ماكينات سنجر. وقد دخل هؤلاء الدجالون من أبواب متعددة أبرزها الرقية الشرعية وتفسير الأحلام وفك السحر وتشريح ما وراء الطبيعة. وطالب وزارة الشؤون الاسلامية والأوقاف بوضع نظام لهذه المهنة إذ أنها مسؤولة عن وضع الآليات الكفيلة بالحد من هذا العبث بمصائر الناس وأموالهم وكشف المتلاعبين والدجالين، والتعاون مع الجهات المسؤولة لضبطهم إضافة إلى قيامها بحملات توعية كي لا يذهب الناس ضحايا لجهلهم وإحباطهم. توقيف الرقاة عضو مجلس الشورى السابق الدكتور محمد آل زلفة أبدى أسفه من كثرة الرقاة الذين يملأون الساحة وطالب بمحاربتهم، مبينا أنه من الواجب إعطاء العيادات الطبية دورها ومنع الذهاب لمثل هؤلاء الدجالين، لافتا إلى أن الأكثر عرضة للأمراض النفسية هن النساء بسبب كثرة مشاكل المجتمع الذي يمارس ضدهن أشد أنواع التضييق ما يوقعهن في حالات الاكتئاب. وأضاف مجتمعنا يتعرض لمشكلة كبيرة وهجمة شرسة بالتجهيل المخيف وأصبح حيلة للدجالين الذين يصفون أنفسهم بالمنقذين، فالمطلوب إعادة النظر في تربية الأبناء والمجتمع وإبعادهم من الخوف الزائد من أي شيء حتى لا يبحثوا عمن يخلصهم منه. وقال: إن الخطاب الديني الزائد عن اللزوم خوف المجتمع فصار الناس يخافون من كل شيء من العذاب والنار وغير ذلك ويشككون غيرهم حتى في أبسط الأمور. وطالب آل زلفة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهيئة كبار العلماء بإغلاق دور الرقية المختلفة ومنع كل من يقوم عليها ويزاولها، لافتا إلى أن هناك العديد من القضايا حول اعتدائهم على الأعراض باسم الرقية، ويفترض منعهم وعدم ترك الحبل لهم على الغارب، كما أن محاربتهم واجبة كمحاربة أصحاب السموم والمخدرات. وقال: على الجهات المسؤولة تصفية المجتمع من هذه الفئة والتركيز على تنمية الثقة بالله وترك الاعتماد على من سواه وتوجيه المرضى بالذهاب إلى الأخصائيين النفسيين والأطباء الذين قضوا أوقاتهم في التعليم في الجامعات بدلا من الذهاب للجهلة وعدم الاقتصار على الدعاة والمرشدين، بل فتح الباب لعلماء النفس والكتاب والصحافيين الذين ينفعون مجتمعهم بطرق مثل هذه القضايا. الطب والرقية أستاذة علم الاجتماع والاستشارية في مستشفى الملك عبد العزيز الجامعي في جدة الدكتورة منى الصواف تحلل موضوع الرقية الشرعية وعلاقتها بالطب وما يحدث من ضرب وخنق من خلال ما تشاهده من ملاحظات من بعض من يزورونها في عيادتها قائلة: إن الرقية الشرعية مرتبطة بالطب النفسي، وهي علاج لبعض الأمراض النفسية غير الذهنية، والعلم حاليا يهتم بالنواحي الاجتماعية والدينية والعضوية للفرد، فلماذا لا نعود للمفهوم الحقيقي للرقية كما عودنا عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، لا سيما وأنها للوقاية والتحصين ولمنع حدوث شيء سلبي، وليست للعلاج المستمر. وأضافت: هناك نقطة يجب توضيحها، ليس كل اضطراب نفسي هو نتيجة لسحر أو مس أو حسد أو عين، معظم الأمراض النفسية لها علاجها الخاص بها، وأصبح لها سبب بيولوجي محدد نستطيع معرفة علاجه بعد إجراء الفحوصات، ومثال ذلك الوسواس القهري الاكتئابي، البعض يعتقده ضعف شخصية أو وسوسة من الشيطان، وهو في الحقيقة لا علاقة له بالشيطان أو ضعف الشخصية ولا بضعف الإيمان، هو مرض ناتج عن خلل في المواد الكيميائية في الجهاز العصبي المركزي. ليست علاجا أنا لا أسمي الرقية الشرعية علاجا، لأنها وسيلة وقاية وحماية وتحصين، فلا بد من نظام ينظم هذه الدور ويرتبها ويعالج الفوضى الحاصلة فيها، بحيث تتم مراقبتها وبأي أساس تعمل، حتى يمكن ضبط الممارسات الخاطئة فيها، بعض الرقاة للأسف يستغل الرقية ليس في القراءة فقط، بل يقوم بصرف أدوية وأعشاب تسبب تليفا في الكبد والكلى لأنها لا تخص المرض، بل إن بعضها لا يمت للمرض بأية صلة.