الحلقة الرابعة: لايمل الأستاذ البليهي التشكيك في تهميش دور حركة العلوم العربية على العقل التجريبي الحديث. ويحلو له دائما الرد على كل شهادة غربية بدور علماء الحضارة العربية بالقول: إن المجاملة هي من طبيعة الغرب المتحضر !!.ولست أحيل هنا إلى الكتب الدعائية السطحية التي قد يتهمها البليهي بالمجاملة، وإنما أدعو إلى قراءة أعمال كبار مؤرخي العلم المشهود لهم بالكفاءة الأكاديمية في كبريات الجامعات الغربية ومراكز الدراسات والبحوث. ومن أهم هؤلاء الكسندر كويري ورشدي راشد وتوماس جولد شتاين وهنري هونغار.. وقد أثبتوا بالدليل الساطع أن كتب العلوم العربية قد ترجمت على نطاق واسع وساهمت في دفع الحركة العلمية في الغرب الحديث. ولنكتفي بهذا الاستشهاد من كويري في كتابه «دراسات في تاريخ الفكر العلمي» الذي يعده المختصون من أهم كتب تاريخ العلم: «إن العرب هم الذين كانوا معلمي ومربيي الغرب اللاتيني.لقد شددت على كونهم معلمين مربين وليسوا فقط مجرد وسطاء، كما يروج بكثرة، بين العلم اليوناني واللاتيني، لأنه إذا كانت الترجمات الأولى للأعمال الفلسفية والعلمية اليونانية إلى اللغة اللاتينية لم تتم مباشرة بالعودة إلى النصوص اليونانية وإنما بتوسط الأعمال العربية، فإن ذلك لم يكن سببه فقط عدم وجود من يعرف اليونانية في الغرب ولكن أيضا، وربما خاصة، لأنه لم يكن بإمكان أي شخص غربي في ذلك الحين أن يفهم كتبا بتلك الدرجة من الصعوبة كفيزياء أرسطو أو ميتافيزيقاه، أو ماجيست بطليموس، والتي بدون مساعدة من الفارابي وابن سينا وابن رشد، لم يكن للاتينيين أن يتوصلوا إلى فهمها أبدا». فهل بعد هذه الشهادة من اعتراض؟، لا أريد الاستطراد في سياق الإسهامات المهمة لعلماء الحضارة الإسلامية فهذا ليس من هم هذه التعليقات. أريد فقط أن أحيل البليهي إلى أهم دورية علمية في هذا الكوكب (مجلة نيتشر نوفمبر 2006) ولا أظنه يستطيع اتهام هذه الدورية بالمجاملة. وأريد ولو مرة واحدة أن استشهد بشيء من تخصصي الطبي. فالعالم والطبيب جوديونج الرئيس السابق للمعهد الوطني الأمريكي للصحة النفسية أكبر مركز لدراسة العقل وأمراضه في العالم يقول في كتابه عن اضطراب المزاج الوجداني ثنائي القطب وهو أهم مرجع في هذا المرض حتى اليوم، يقول قودوينج: إن ابن سيناء سبق النمساوي كربلين ومعاصريه في توصيف العلاقة المشتركة بين اضطرابي المزاج أحادي وثنائي القطب. (جودوينج 1990 طباعة أكسفورد). أما إشكال الفصل بين نقلية الحضارة الإسلامية وعقلانية الحضارة الغربية فيستدعي وقفة مقتضبة. يكرر البليهي هذه المقولة في مكاشفاته وفي كل كتبه، فيقول بوضوح: «ثقافتنا ثقافة نقل لا ثقافة عقل». ويضيف: «حضارتنا حضارة دينية وفقهية. إنها مستغرقة في تفاصيل ما يجب على المسلم أن يفعله ويكف عنه في علاقته مع الله وتفاعله مع الآخرين». والواقع أن البليهي لم يستوعب الدرس الأساسي لفلسفات التأويل المعاصرة التي أجمعت على أنه لا عقل إلا من خلال نص سابق مفكر فيه، وأن كل ثقافة مهما بلغت في العمق الفلسفي والرصانة العقلانية إنما تنطلق من قواعد للتعقل ومعايير للحقيقة ليست في ذاتها عقلانية. فلكل نظام معرفي ضوابط معيارية للفصل بين المعقول واللامعقول والحقيقة والخطأ. وليس ثمة علاقة مباشرة بين عقل ثابت مطلق ووجود يتم تعقله، فما بين الواقع والعقل حاجز النص الذي ينتج الدلالة والمعنى. وكما قال أحدهم فإن العقلانية تقتضي مسلمة إيمانية أولى هي الإيمان بالعقل حجة ودليلا. ولذا ليست الحضارة الإسلامية أكثر نصية أو أقل عقلانية من الحضارة الغربية، كما أن الحضارة الغربية لا تقل نقلية عن الحضارة الإسلامية. وبيان ذلك هو ما يلي: إن الفلسفة الغربية ليست قديما أو حديثا سوى قراءات متتالية لنصوص مؤسسة هي الأصول المرجعية للخطاب العقلاني الغربي. بل إن هايدغر أكبر فلاسفة الغرب المعاصرين يقول بوضوح: إن الفلسفة كلها خرجت من شذرات فلاسفة ما قبل سقراط الذين صاغوا سؤال الوجود. وما بينته مناهج العلوم الإنسانية المعاصرة بالدليل القاطع هو أن كل نسق يحمل في آن واحد تركة دلالية هي سمته النقلية (الجانب المرجعي في النص) ومساحة إبداعية ثرية هي مجال التأويل والممارسة العقلانية. وإذا كانت الحضارة الإسلامية خرجت من النص، فذلك لا ينفي كونها أنتجت تقاليد عقلانية خصبة ورصينة من خلال عملية تأويل نصوصها المرجعية. والدليل هو العلوم والمعارف المتنوعة التي أفرزتها هذه الحضارة من علوم خادمة مباشرة للنص وان حققت بعديا استقلاليتها الابستومولوجية (كالنحو والبلاغة وعلم الأصوات..) إلى علوم للطبيعة التي لم تكن لتظهر لولا الخلفية العقدية الحافزة لها أي فكرة تسخير الطبيعة ونزع القداسة عنها وتكريس البعد التجريبي للمعرفة. وكما هو بديهي لدى كل من له أدنى اطلاع في الفلسفة المعاصرة تقاس القيمة العقلانية لثقافة ما بتركيبة نظامها المعرفي أي بعدد علومها وتنوع مناهج هذه العلوم وخصوبتها النظرية. فما هو العقل دون نص ؟ أليس مجرد تأمل فارغ في الذات ممتنع في الواقع ؟ وما هو العلم دون نقل ؟ ألا يتطلب كل علم ثقة في المسلمات والأدوات المرجعية والمنهجية الخاصة به؟. أما كون الحضارة الإسلامية خرجت من الدين. فلا يقدح ذلك في عقلانيتها. ومن الواضح أن البليهي انساق هنا دون أن يجرؤ على إعلانها صراحة خلف مسلمة زائفة منتشرة على نطاق واسع هي مسلمة التعارض الجذري بين الفلسفة والدين. فعلى الرغم من الاختلاف الجلي بينهما، إلا أن الفلسفة والدين يلتقيان في المنبع العميق الذي هو تساؤل الإنسان حول وجوده ومصيره. والمعروف أن الفلسفة تستوحي مفاهيمها وتصوراتها من الخطابات الأخرى، وفي مقدمتها الدين. ولقد بين مؤرخو الفلسفة المعاصرون أن أهم المفاهيم الفلسفية المعاصرة كالذات والتمثل والسيادة... ترجع إلى القاموس اللاهوتي. وأغلب الفلاسفة القدماء والمعاصرين استوعبوا الدين في أنساقهم الفلسفية، بما فيهم أكثرهم بعدا عن الدين وإلحادا فيه. فما القول في إله ديكارت الضامن لتناسب العقل والطبيعة؟ وما القول في إله لايبنتز الحاسب وإله سبينوزا الذي يتماهى مع الطبيعة وإله هيغل الذي يتماهى مع التاريخ وإله هايدغر المنتظر الذي هو وحده الذي «يمكن أن ينقذنا»؟.. وحتى الفلاسفة الذين رفضوا الدين ونقدوه وخرجوا عليه لم يكونوا أقل اهتماما بالدين ولا تقديرا لأثره في واقع الناس، ولا أحد منهم استطاع بالدليل العقلي إبطال الدين أو البرهنة على عدم صحته. بل إن الفلسفة الحديثة انتهت منذ كانط إلى الفصل المنهجي بين الفلسفة والدين. أعني أنها انتهت إلى أن الحقيقة العلمية هي غير الحقيقة الإيمانية دون قطيعة أو مواجهة بينهما. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 247 مسافة ثم الرسالة