السياسة هي في النهاية محاولة الحصول على أفضل الشروط والعوائد من وضعية تفاوضية أو صراعية بين طرفين تحكمهما علاقة قوة، ليست بالضرورة متناظرة.. أو متوازنة. «البزنس»، في المقابل، أيضاً علاقة قوة بين طرفين أو أكثر تحكمها، محاولة تعظيم عوائد استغلال رأس المال.. أو على الأقل، تقليل مخاطر الاستثمار، بين خيارت متفاوتة في السوق، مع الاحتفاظ، بمواقع لوجستية تسمح بالخروج من السوق، عند الضرورة، بأقل الخسائر المحتملة أو المتوقعة. كلا المجالين، في الاستثمار بموارد القوة المادية، يعتمدان على احتمالين إما الربح أو الخسارة، مع احتمال ثالث: تعليق حالة الصراع لمعاودة النزال، في جولة قادمة، ما لم تُحسم دواعي الصراع بينهما، باتفاق يخدم الحد الأدنى من متطلبات كل طرف من حركة الصراع، نفسها. المشكلة هنا: أنه في السياسة، لا يكون الرهان على مصير موارد مادية، يمكن قياسها كمياً، ويمكن حصرها في مصالح خاصة، في كل الأحوال، بقدر ما يكون الرهان على عوائد استراتيجية، ذات أبعاد سيادية، لها علاقة بالسلطة، لا يمكن حسابها بدقة، ويصعب المساومة عليها.. كما لا يمكن تعويض خسائرها بسهولة. باختصار: الصراع داخل السوق، في حالة الاستثمار في رأس المال، ليس مثل الصراع على السلطة، كما هو الحال في السياسة، وإن كان في الأخيرة أكثر شراسة وقسوة. العمل في السياسة، في بلدان الديمقراطيات الغربية، هو في الأساس مهنة احترافية، يشتغل فيها الساسة، وإن كان مضمار السياسة مشاعاً للجميع، يدخل من بوابته، من يهوى العمل بالسياسة. وإن كان العمل بالسياسة، حكراً على محترفي العمل السياسي، بل هو موكول لمؤسسات النظام السياسي غير الرسمية، مثل: الأحزاب السياسية و«اللوبيهات» وجماعات الضغط والمصالح، التي تؤهل المنتمين لها وتجنيدهم للعمل السياسي. في أوروبا العمل بالسياسة، يبدأ من مراحل مبكرة لمن تستهويهم السياسة. في المقابل: في الولاياتالمتحدة، الأمر لا يحتاج إلى خبرة سياسية أو ثقافة سياسية، أو حتى أيديولوجية سياسية. كثيرٌ من رؤساء الولاياتالمتحدة، استقطبتهم الأحزاب السياسية، لينافسوا على المناصب العليا، دون أن يكون لهم خبرة في عالم السياسة. دوايت أيزنهاور (1890-1996)، كان جنرالاً عسكرياً رفيعاً، استقطبه الحزب الجمهوري، نظراً لشعبيته الكاسحة، كونه قائد قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، دون أن يكون عنده خلفية وخبرة سياسية. بينما في بريطانيا، لم يقدم الجنرال برنارد مونتجمري (1887–1976) على العمل في السياسة. حتى رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل، الذي قاد بريطانيا للانتصار في الحرب العالمية الثانية، لم يسمح له الشعب البريطاني بقيادة بريطانيا، بعد الحرب. كانت حكمة الشعب البريطاني تقول: من قاد بريطانيا في وقت الحرب حتى ولو انتصر فيها، ليس بالضرورة بقادرٍ على مواجهة وحل مشاكل بريطانيا في وقت السلم. الرئيس ترمب، لم يشتغل بالسياسة، وجاء من عَالَم المال والأعمال... بل إنه جاء مباشرةً لأعلى منصب (رئاسة الدولة)، عازماً على إحداث تغيير على مؤسسات النظام السياسي الرسمية، بما فيها الدستور، بدعوى إصلاح النظام السياسي. مجيء الرئيس دونالد ترمب من خارج عالم السياسة في واشنطن، ليس من أجل إصلاحه، بل من وجهة نظره؛ لإعادة بنائه من جديد، وفقاً لثقافة ومنهج الوسط الذي جاء منه (البزنس). الرئيس ترمب يمثل ثقافة وخبرة «البزنس»، وليس عَالَم السياسة، الذي تحكمه قيمة الخدمة العامة، وليس بالضرورة قيمة الربح المجرد (الرأسمالية). المشكلة الاقتصادية غير المشكلة السياسية. الأولى: تهتم بإدارة موارد المجتمع، وفقاً لمعايير هيمنة رأس المال.. والثانية تهتم برفاه وحرية واستقرار المجتمع، وفقاً لقيم الحرية والمساواة. الرئيس ترمب، رغم وصوله إلى أعلى منصب سياسي في الولاياتالمتحدة، إلا أنه لم ينسَ للحظة أنه رجل أعمال، يبحث عن الربح، بكل وسيلة وبأي ثمن. في أزمة غزة مرة يقول: أن أمريكا سوف تحتل القطاع، وهذا مما أغاظ إسرائيل، ليرجع ويقول: أنه هو من يسعى لشراء القطاع. هنا: يهدم ترمب أي فواصل بين ملكية الدولة وملكيته الخاصة. هو يتحدث عن صب الجحيم على غزة، كحل جذري لمسألة غزة، وفي رأيه لواشنطن والغرب.. وتارةً أخرى يجادل: بحل إفراغ غزة من أهلها، وتحويله القطاع إلى ريفيرا شرق أوسطية! مرة يحرض إسرائيل على أهل غزة، وتارةً أخرى ينتظر من العرب بديلاً للتعامل مع القطاع بعد الحرب، غير ذلك الذي يقترحه. وكأنه يقذف بالكرة في ملعب العرب، بعد أن حدد قواعد اللعبة وتبعاتها وحصرها بعيداً عن ملعبها. في عملية التفاوض، يبدأ الرئيس ترمب بسقف عالٍ، حتى يقبل خصمه بالسقف الذي يريده هو، وفي الأثناء لا يتورع بالتهديد. نهجٌ قد يكون مقبولاً بعالم «البزنس»، إلا أنه لا يجدي نفعاً في عالم السياسة. في السياسة: قد تكون نتيجة التفاوض احترام الحدود الدنيا من مطالب أطراف التفاوض، دون هزيمة مباشرة لأحد الأطراف. لكن في عالم «البزنس» يمكن تصور أن اللعبة صفرية. مشكلة الرئيس ترمب أنه جاء من خارج بيئة العمل السياسي، ليُطَبِق عليه قيم ونهج عالم المال والأعمال، غافلاً أن عالم السياسة غير عالم المال والأعمال، ما يصلح لأحدهما، قد لا يصلح للآخر.