منذ التنصيب الرسمي لترمب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية قبل أقل من شهر، بات العالم على موعد مع أربع سنوات عاصفة ومليئة بالمفاجآت لرجل لا أحد يستطيع توقع خطواته القادمة، فترمب يختلف كلياً عمن سبقه من الرؤساء، فلا يسير وفقاً لما هو متبع من خطوات مؤسسية وقواعد حزبية وبرنامج سياسي خاضع للمراجعة، ولكن فقط وفق ما يمليه عليه عقله، إذ يتعامل في كل قراراته كتاجر يهدف إلى الربح وتحقيق مصالح اقتصادية لمواطنيه يفاخرهم بها، غير أنه في المقابل لا يقدم لمواطنيه خطة أو رؤية مستقبلية أو سياسات قابلة للتنفيذ، بل يكتفى بتقديم نفسه كرئيس شعبوي يحمل وعودًا كبيرة تنفيذها يظل مرهوناً بواقع داخلي وعالمي معقد. ترمب في دورته الثانية والتي يُفترض أنها أخيرة يختلف كلياً عن ترمب في دورته الأولى، ففي هذه المرة تنقاد الولاياتالمتحدة لحكم زعيمٍ أوحد دون منازع جاء بأغلبية ساحقة من الأصوات الانتخابية والشعبية معًا، وبذلك يتوارى حكم النظام السياسي كفكرة حيث تدار الدولة وتطبق سياساتها الداخلية والخارجية أياً من كان على رأس السلطة، ويتجلى صوت الزعيم الفرد، ولعل العالم قد لمس ذلك منذ تولي ترمب الرئاسة وما يصدر عنه من قرارات غير مدروسة أو قابلة للتنفيذ يتفاجأ بها حتى أفراد إدارته ومستشاروه، مقارنةً بسنوات الرئيس السابق بايدن الذي يعلم الجميع أنه كان يعاني من الخرف، لكنّ ذلك لم يؤثر على سياسات الدولة واستراتيجياتها وخططها. والملاحظ أن ترمب في قراراته جميعها يحرص على تصدير نَفَس شعبوي صريح يدغدغ به مشاعر مواطنيه ويُشعرهم أنه حاكم أوحد لهذا الكون وليس لأميركا فقط، حتى في شعاراته التي اختارها بجعله اللحظة الأولى لتنصيبه هي بداية العصر الذهبي لأميركا وإعادة أميركا قوية وعظيمة مرة أخرى، وإطلاقه التصريحات العريضة والمفاجئة دون أن يوضح آلية تحقيقها أو توقيتاتها ما يضطره بعد ذلك لإرجائها أو محاولة تهذيبها ويجعل إدارته تتخبط في تأويلها، كتراجعه عن فكرة إرسال قوات أمريكية إلى غزة، ولعل ذلك سيكون الخلل الأكبر في مستقبل ولايته، إذ أن كثيراً من هذه الوعود سواء ما يتعلق بدول الجوار الامريكي أو الاتحاد الأوروبي أو ما يتعلق بمنطقتنا في الشرق الأوسط هي أقرب إلى الأحلام منها إلى الواقع وتواجه تحديات ضخمة تحول دون تحقيقها سريعًا كما يتمنى، بل وتفتح باب عداوات جديدة مع دول كثيرة وتثير حفيظة ومخاوف آخرين، وتعطي مبررات لخصوم الولاياتالمتحدة لتعزيز نفوذهم عالمياً، فضلًا عن الإضرار بالعلاقات مع حلفاء تقليديين للولايات المتحدة مثل دول الاتحاد الأوروبي. لا يدرك ترمب حتى الآن أو يبالي بأن الغرور الزائد والإفراط باستخدام القوة والقهر قد يأتيان بنتائج عكسية، ويتسببان بتضرر الشعب الأميركي نفسه جراء الحروب التجارية والعداوات السياسية والاقتصادية وإظهار أميركا كدولة لا تحترم القوانين الدولية، ما ينذر بفوضى شاملة يرى فيها القوي إمكانية الانقضاض على جاره الضعيف، بعدما رأوا الدولة العظمى تلعب دور "الشبيح أو البلطجي" ويعامل رئيسها أوطاناً كاملة كأنها عقارات، فيخير شعباً بين اغتصاب أرضهم وقبول التهجير أو إبادتهم وإفنائهم، ويخير دولاً بين أن تستقبلهم أو أن يدمر اقتصادهم ويوقف المعونات لهم. لقد خلق ترمب خلال أيام معدودة بمزجه بين الشعبوية الاقتصادية اليسارية والقومية اليمينية قلقاً عالمياً واسعاً، المتضرر الأكبر منه هو الولاياتالمتحدة نفسها قبل غيرها، ما يمثل تحدياً كبيراً ويخلق مشهدًا سياسيًا معقدًا وخطيرًا، فترمب بأسلوبه هذا يمنح العالم الفرصة ليدير شؤونه بعيداً عن النظام الذي اختطته أميركا للعالم من بعد الحرب العالمية الثانية، بتقويضه للمؤسسات الدولية وانتهاكه للقواعد التي أرستها أميركا للعالم، فهو يعاقب محكمة الجنايات الدولية وينسحب من منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس للمناخ ومجلس حقوق الإنسان ويلغي الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، ويتوعد باحتلال بلدان وضم أخرى إليه، ويأمر دولاً بإجراءات عليهم تنفيذها ويؤكد أنها ستطيعه دون حتى النظر لواقعها وظروفها، ويتهم عشرات الدول أنها استغلت أميركا وسلبتها خيراتها وأنه جاء ليوقف ذلك، متغافلاً عن مدى حمق هذا الهراء وما يمكن أن يجلبه أن استمر فيه ومتجاهلاً أن أميركا كانت المستفيد الأبرز من كل ما تقدمه لهذه الشعوب، فترمب الآن يصدق عليه وصف أحد مستشاريه حين قال عنه: "إنه يحرك قوائم المرمى بشكل جنوني، هذه المرة لا تخيفه العناوين الرئيسية أو النقاد، ويرمي كل ما يرغب في رميه". كما حملت تصريحاته بشأن السياسة الخارجية الأميركية وتوجهاتها نزعة انعزالية فردية، تجاهل خلالها مسؤولية أميركا الدولية كقوة عظمى في النظام الدولي، فضلًا عن تركيزه على تحقيق مكاسب مباشرة للولايات لمتحدة دون النظر لدورها القيادي العالمي، ودون وضع آلية لتنفيذ ما يعد به، والجميع يذكر كيف وعد ترمب بإنهاء الحرب الأوكرانية خلال 24 ساعة بل وقبل تنصيبه رئيساً وهو ما لم يحدث، ما يبين عدم إدراكه للحد الأدنى من معقولية أي طرح يقدمه في ذروة مبالغاته وإطلاقه الوعود، وهذا مجرد مثال فقط وقس عليه أغلب تصريحاته، سواء مع جيرانه كالمكسيك وكندا، أو بحديثه عن ضم قناة بنما والتي تبدو خيالاً جامحاً، أو بضرب العلاقة الأميركية مع حلفائها الغربيين والحديث عن إجراء تعديلات جذرية على العلاقة مع حلف شمال الأطلسي وتعهده بمطالبة أوروبا بتعويض بلاده عن ذخائر أُرسلت إلى كييف بنحو 200 مليار دولار. ترمب وملفات الشرق الأوسط حتى ساعة تنصيب ترمب بل وبعدها بأيام كانت هناك حالة من الإيجابية والتفاؤل تسود بين المحللين والمراقبين السياسيين بخصوص مستقبل الشرق الأوسط بعهد ترمب وآلية تعامله مع ملفاته الشائكة وتوقعهم إحلاله للسلام بالمنطقة عبر إيجاده حلاً للمعضلة الفلسطينية وإنهاء الإشكال الإيراني وتغوُّل إيران بعدد من الدول العربية عبر مليشياتها المسلحة، من خلال التضييق الاقتصادي وسياسة العقوبات القصوى وربما الضربات العسكرية أو رضوخ إيران وتخليها عن أحلامها التوسعية وملفها النووي وانزوائها على نفسها، وكنت أختلف مع هذه النظرة شديدة التفاؤل، وكتبت أنه من المبكر الحكم على الطريقة التي سيتبعها ترمب في تعامله مع المنطقة، حتى فاجأ ترمب الجميع ليس بتبنيه خطاب اليمين الإسرائيلي المتطرف بل بمزايدته على خطابهم بوعود لم يكن هؤلاء المتطرفون يحلمون بها، من استيلائه على غزة وتحويلها إلى ريفييرا شرق أوسطية وتهجير الفلسطينيين من أرضهم وتوزيعهم على البلدان المختلفة، ما يقضي حرفيا على حل الدولتين الذي لطالما توارت خلفه الولاياتالمتحدة في قتلها للقضية، حتى جاء هذا الرجل ليخلع عن وجه أميركا القناع الذي كانت دوماً تستتر خلفه. يدرك الجميع تماماً أن الصراع الفلسطيني -الإسرائيلي يشكل تحديًا معقدًا، خاصة في ظل اليمين المتطرف الذي يحكم إسرائيل والذي يميل إليهم ترمب الذي ما فتئ يصف نفسه دوماً بأنه أفضل صديق لإسرائيل، وأنه سيجعل إسرائيل عظيمة مرة أخرى، وصرح أنه يميني متطرف في هذا الشأن، وأعلن بكل بساطة أن على الأردن ومصر استقبال فلسطينيي غزة في دعوة صريحة للتطهير العرقي متجاهلاً رأي قيادات البلدين الرافض وغضب الشعوب العربية وما قد يثيره ذلك من زعزعة الاستقرار لدى دولتين حليفتين وتعانيان أزمات اقتصادية طاحنة أو رأي الفلسطينيين أنفسهم أصحاب الأرض ورأي مقاومتهم التي صمدت في حرب استُخدمت فيها أعتى الأسلحة على مدار 15 شهراً، وهو في طريقة حديثه - كما يرى الكاتب بالواشنطن بوست ديفيد اغنيش - يتصور نفسه إمبراطوراً أو ملكاً لهذا العالم فيما زعماء العالم قادة عنده أو أمراء تحت يديه يملي عليهم ما يريد، لذا فما لم يكن ما يفعله ترمب مناورة جامحة للحصول على أكبر قدر من النفوذ والتنازلات بالمنطقة فقد وُئد حل الدولتين حالياً وبات خارج أولويات ترمب، وهو ما شجّع نتنياهو على القول إنه بات من الخيال الحديث عن إقامة دولة فلسطينية. مستقبل العلاقات السعودية - الأميركية بعيداً عن المزايدات الإعلامية ومكايدات مواقع التواصل الاجتماعي، وعن التصريحات الخرقاء لنتنياهو والتي كان رد المملكة عليها في غاية القوة، فلا أحد يمكنه التشكيك في أهمية المملكة عالمياً وإقليمياً ودورها كحليف استراتيجي للولايات المتحدة، وأنه سواء بايدن أو ترمب أو غيرهما، فالجميع يتساوون في الاعتراف بأهمية الحفاظ على علاقة قوية مع الرياض رغم اختلاف أساليب من هم على رأس السلطة، ولا أدل على ذلك من أن كل رئيس للولايات المتحدة وكذلك نتنياهو يرون في التطبيع مع المملكة جائزتهم الكبرى، فيما المملكة غير منشغلة به ولا يعنيها بل وتفرض شروطها لذلك، وكان ردها حازماً على حديث ترمب عن تهجير الفلسطينيين، حيث أكدت على أن موقفها الثابت ليس محل تفاوض أو مزايدات، وأن السلام الدائم والعادل لا يمكن تحقيقه دون حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة وفقًا لقرارات الشرعية الدولية. وقد أثبتت قيادتنا خلال السنوات الثماني الماضية قدرتها على التعامل باحترافية عالية مع كلا الإداريتين، وبرهان ذلك قيام كلا الرئيسين (بايدن وترمب) بزيارة السعودية لتعزيز العلاقات بين الدولتين، وهو ما يدعو للتفاؤل بنجاحات كبيرة في المرحلة القادمة، كون السعودية تمثل مركزاً حيوياً لاستقرار المنطقة وشريكاً رئيسياً في تحقيق الأمن الإقليمي، فضلاً عن احتفاظ السعودية بمسافة متقاربة بين التجاذبات الأميركية والصينية ما يعكس استراتيجياتها في البناء على تحالفات جديدة، ويجعلها محوراً للتوازن الدبلوماسي في المنطقة. كانت أول مكالمة هاتفية للرئيس الأميركي دونالد ترمب عقب عودته إلى منصبه مع سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وهو ما يشير إلى العلاقة المميزة بين البلدين وإلى أولويات الرئيس ترمب الذي أبلغ سمو ولي العهد أنه يتطلع إلى العمل مع الرياض لتعزيز المصالح المشتركة وعلى رأسها المصالح الاقتصادية المتبادلة التي تعود بالنفع على كلا البلدين، حتى وإن أعلنها ترمب بصيغة التاجر لأنصاره بدعاوى ترويجية وإعلامية متفهمة من شخصية مثله يخاطب جمهوره بلغة السوق والربح والخسارة، لكن الأهم من كل ذلك هو التأكيد على أن التعاون بين السعودية ومن خلفها دول المنطقة الكبرى والولاياتالمتحدة يعد الطريق الحقيقي نحو السلام والاستقرار الإقليمي والتأسيس لدولة فلسطينية ينعم مواطنوها بحقوقهم المشروعة، ورغم صعوبة ذلك وما يعتري ترمب من سيل تصريحات يطلقها حالياً صباح مساء عن المنطقة ومستقبلها وفقاً لأحلامه إلا أن شخصية ترمب المزاجية وتعامله الدائم بطريقة التاجر الباحث عن المكسب أمام مؤيديه قد تكون المنفذ لتحقيق صفقة مع هذا الرجل ودفعه للعب دور استثنائي وتغيير رأيه للضغط على إسرائيل للتوصل لصفقة تاريخية لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي وإحلال السلام بالمنطقة. * أستاذ زائر بكلية الزراعة وعلوم الحياة، قسم الهندسة الزراعية والنظم البيولوجية بجامعة أريزونا، توسان، أريزونا، الولاياتالمتحدة دونالد ترمب