في أعقاب انتهاء العلاقات التعاقدية بين البحرين وبريطانيا العظمى في عام 1971، دشّنت البلاد مرحلة جديدة من عملية البناء الوطني بوضع دستور عصري للبحرين تم إقرار مواده من قبل مجلس تأسيسي برئاسة الأديب إبراهيم عبدالحسين العريض، وعضوية شخصيات منتخبة بالاقتراع السري المباشر وأخرى معينة. وبعد إقرار الدستور مباشرة جرت انتخابات حرة في السابع من ديسمبر 1973 لاختيار 30 نائباً من خلال 20 دائرة انتخابية كي يشكلوا مع 15 نائباً معيناً بحكم مناصهم الوزارية أول مجلس نيابي في تاريخ البلاد تحت مسمى «المجلس الوطني». هذا المجلس تم حله في عام 1975 لأسباب سياسية وأمنية، ومذاك ظلت البلاد دون مؤسسة تشريعية حتى عام 1992 الذي تقرر فيه تأسيس مجلس الشورى المعين الذي بقي يعمل كجهاز تشريعي وحيد حتى عام 2002. ففي ديسمبر 2000 أطلق جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة المعظم ميثاق العمل الوطني لتحديد مقومات الدولة الوطنية الحديثة وإقرار بعض التعديلات الدستورية، وفي فبراير 2001 أخضع الميثاق للتصويت الشعبي فنال موافقة الأغلبية الساحقة من البحرينيين بنسبة 98.4%. وفي العام التالي عادت الحياة النيابية إلى البلاد من خلال برلمان مكون من مجلسين (مجلس الشورى المعين ومجلس النواب المنتخب انتخاباً حراً). وهكذا فإنه منذ بدء الحياة النيابية في البحرين سنة 1973، توالت على منصب رئيس «المجلس الوطني»، ثم بديله «مجلس النواب» خمس شخصيات هي على التوالي: حسن جواد الجشي (1973 1975)، خليفة أحمد الظهراني (2002 2014)، أحمد إبراهيم الملا (2014 2018)، فوزية عبدالله زينل (2018 2022)، أحمد سلمان المسلم (من 2022 وحتى الآن). أما مجلس الشورى الذي بدأ عمله في عام 1992، ثم تحول في عهد الإصلاحات السياسية إلى أحد غرفتي البرلمان، فقد ترأسه مذاك وحتى اليوم كل من إبراهيم محمد حميدان (1992 2002)، د. فيصل رضي الموسوي (2002 2006)، علي صالح الصالح (من 2006 حتى الآن). كانت تلك مقدمة للحديث عن رائد مخضرم من رواد العمل التشريعي في البحرين، خاض منذ شبابه معترك العمل السياسي من خلال الترشح لعضوية المجلس النيابي الأول، ثم من خلال المشاركة في التشريع كعضو معين في أول مجلس للشورى، ثم من خلال مقعد نيابي حصل عليه بالانتخاب في أول انتخابات عامة بعد عودة الحياة البرلمانية بموجب ميثاق العمل الوطني، وأخيراً من خلال ترؤس مجلس النواب لثلاثة فصول تشريعية متتالية، وإدارة جلساته وأعماله بحنكة وروح أبوية ما زالت حديث الناس إلى اليوم. المعني بهذا الكلام هو معالي خليفة بن أحمد بن خليفة بن محمد الظهراني، الرجل العصامي الذي عرفه البحرينيون قبل سنوات طويلة من خوضه العمل السياسي، موظفاً ومعلماً ومدرباً في مدرسة شركة نفط البحرين للتأهيل المهني، ورجل أعمال قديراً، وعضواً مؤسساً في العديد من المؤسسات الخيرية والرياضية والاجتماعية، فكان ناجحاً في كل ميدان ومتواضعاً في كل محفل وخادماً أميناً لوطنه وشعبه في كل موقع. لخص الزميل جمال جاسم زويد الأسباب التي دفعته إلى إصدار كتاب في العام 2018 عنه بعنوان «خليفة بن أحمد الظهراني.. صفحات مضيئة في تاريخ الوطن»، فقال: «هذا الكتاب المتواضع ما هو إلا جهد المقل، أرتأيت القيام به وفاء لقامة شاهقة من القامات التي يزخر بها وطننا العزيز ممن ينبغي توثيق مسيرتهم لاسيما إذا كانت لهم صفات نيرة تتعلق بتجارب الشعوب ومعاصرة مراحل انتقالية مهمة في حياة مجتمعها، فتكون تلك الشخصيات مقياساً دقيقاً لقدرة تلك المجتمعات على التكيف مع التطور في واقعها، والانتقال بها إلى الأفضل. فعموم الأوطان تمر بمراحل شتى خلال رحلة رقيها وتطورها، وبالتالي يكون التأريخ والتوثيق لرجالات البلد من الحقوق الوطنية التي يجب ألا تهمل، فهي سجل ممزوج بالأمل يستأهل أن يرجع إليه الأبناء والأحفاد في مستقبل أيامهم، فيحفظوا به تاريخ وطنهم وتراثه وهويته، ويستشعروا بعض المحطات التي عايشها الآباء والأجداد ليمهدوا لهم طريقهم القادم بكل عزم وثبات». ولد الظهراني بمدينة الرفاع في عام 1942، ابناً لعائلة يعود نسبها إلى الظهيرات من قبيلة بني خالد، ممن سكنوا بلدة «عنك» الصغيرة على الساحل الشرقي من المملكة العربية السعودية، قبل أن ينتقل أجداده إلى البحرين ويستقروا فيها. وعنك، التي تتوسط مدينتي القطيف وسيهات وتتبع اليوم إدارياً لمحافظة القطيف، من المناطق التاريخية وورد ذكرها في كتاب «التنبيه والإشراف» للمؤرخ العباسي أبو الحسن المسعودي في القرن العاشر. كما أنها إحدى المناطق التي حكمتها قبيلة بني خالد مع الأحساء لفترة طويلة، علماً بأن اسمها (طبقاً لإحدى الروايات) مشتق من اسم بئر ماء تقع خلفها وتسمى «عينك». نشأ الظهراني في كنف والده الذي أنجب عدداً من الأبناء لم يعش منهم سوى خليفة وابنة وحيدة توفيت عام 2014. وكان والده يقتات من عمله في الغوص وتربية بعض الماشية. وحينما ترك الغوص لرعاية والده المسن، عينه حاكم البحرين الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة طيب الله ثراه إماماً لمسجده في الجسرة ثم إماماً لمسجد قصره بالرفاع. درس الظهراني المرحلة الابتدائية في الرفاع، وعمل خلال عطلات المدرسة الصيفية في مهن مختلفة كالبناء مثلاً من أجل تدبير بعض النقود التي تساعده على الوفاء بمستلزماته الشخصية. وبمجرد أن أنهى الابتدائية دخل سوق العمل. ولأنه كان محباً لمواصلة دراسته، ولأن الكثيرين من مواطنيه كانوا يلتحقون آنذاك بشركة نفط البحرين (بابكو) التي كانت توظف وتعلم في آن، فقد التحق بها في عام 1957 وهو في الخامسة عشرة من عمره، ودرس في مدرستها لعدة سنوات انتهت بحصوله في عام 1961 على شهادة من مركز التدريب والتطوير المهني بالشركة النفطية. أراد الرجل أن يستمر في عمله لدى بابكو، إلا أن والدته نصحته بالبحث عن وظيفة حكومية فانتقل في عام 1962 للعمل في إدارة الجوازات والهجرة مذاك وحتى عام 1973. وخلال هذه الفترة حصل على ترقيات حتى صار نائباً لرئيس قسم الجوازات بميناء سلمان. وإبان تلك السنوات المبكرة من عمره لم يكتفِ بوظيفته الحكومية فمارس إلى جانبها النشاط التجاري الذي بدأه في أواخر 1962 بشراء «مكتبة مبارك بن علي بن حمدان» لبيع الكتب والمجلات العربية، شراكة مع صديقه سعيد بن الشيخ يوسف أبوبشيت بمبلغ مائتي دينار. وبعد عام اشترى حصة شريكه فصارت المكتبة ملكاً خالصاً له (حتى منتصف السبعينات)، وراح يطورها ويزودها بمختلف أدوات الثقافة والمعرفة التي فتحت أمامه وأمام مواطنيه من سكان الرفاع مجالاً واسعاً للقراءة والتثقف الحر. لاحقاً، توسع في نشاطه التجاري فافتتح محلاً لبيع الأدوات الرياضية ومعها بعض الأجهزة الإلكترونية والمنزلية، وبالأرباح التي جمعها تملك أول عقار في عام 1975، ثم أسّس مع قريب زوجته الوجيه أحمد بن مبارك النعيمي «شركة الخالدية للمقاولات» قبل أن يستقل بها في عام 1984 ويحولها إلى «شركة الظهراني للمقاولات» المستمرة في نشاطها إلى اليوم. من خلال أعماله التجارية المشار إليها برز صاحبنا كرجل ناجح من رجالات المجتمع من ذوي الشغف بالعمل الخيري والرياضي والاجتماعي، بدليل انضمامه إلى نادي الرفاع الغربي ونشاطه الثقافي والاجتماعي المتنوع فيه قبل أن يتولى رئاسته لعدة سنوات. هذا ناهيك عن رئاسته الفخرية لصندوق الرفاع الخيري ورئاسة مجلس الأوقاف السنية، علاوة على عضويته في كل من «مجلس إدارة أموال القاصرين» و«الجمعية الإسلامية» و«جمعية البحرين الخيرية» و«جمعية العائلة» و«دار المنار لكبار السن». في عام 1973، كان الظهراني على موعد مع منعطف جديد في حياته العملية. ففي تلك السنة ترشح لإنتخابات المجلس الوطني عن مقعد الدائرة 20، حيث تنافس مع سبعة مرشحين آخرين وفاز عليهم بحصوله على 250 صوتاً. ورغم قصر مدة عمل المجلس الوطني، فإن الظهراني اكتسب من خلال مداولات المجلس وقراراته بعض الخبرة في العمل التشريعي، خصوصاً أنه تولى إبانها منصب رئيس اللجنة العمالية بالمجلس. وقد تعززت خبرته التشريعية تلك من خلال عمله كعضو معين بمجلس الشورى على مدى عشر سنوات متواصلة (من 27 ديسمبر 1992 إلى 14 فبراير 2002). رئيس في 3 انتخابات متتالية مما لا شك فيه أن هذه الخلفية التشريعية للرجل ساهمت في فوزه في ثلاثة انتخابات متتالية لمجلس النواب في عهد الملك حمد بن عيسى آل خليفة، بل كان لها دور أيضاً في بقائه رئيساً لمجلس النواب المنتخب في ثلاثة فصول تشريعية متتالية، بينما لم يستمر خلفاؤه في منصبهم سوى فصل تشريعي يتيم. فقد ترشح لانتخابات أول مجلس للنواب سنة 2002 عن الدائرة التاسعة في المحافظة الوسطى، وفاز من الجولة الأولى بحصوله على 4237 صوتاً بنسبة 90.15%. وحينما تم التصويت لاختيار رئيس للمجلس في 14 ديسمبر 2002، تمكن من الفوز على منافسه النائب صلاح علي بحصوله على 25 صوتاً مقابل 15 صوتاً للأخير. وترشح لانتخابات مجلس 2006 عن الدائرة نفسها، وفاز بحصوله على 3890 صوتاً بنسبة 70.34%. وفي 15 ديسمبر 2006 فاز برئاسة مجلس النواب مجدّداً لكن هذه المرة بتزكية من جميع القوى السياسية البرلمانية لما حظي به من ثقة واحترام وقبول. وكرر الظهراني فوزه حينما ترشح لانتخابات مجلس 2010 التي حصل فيها على 3586 صوتاً بنسبة 77.40%، كما تكرر حصوله على منصب رئاسة المجلس بالتزكية. وهكذا ظل يشغل منصبه حتى نهاية مدة المجلس في 14 ديسمبر 2014، التي قرر الرجل بعدها أن يترك الساحة لغيره، مكتفياً بما حققه من نجاحات وإنجازات وما اكتسبه من محبة الجميع وتقديرهم، لكن مع بقائه جندياً في خدمة الوطن وداعماً للعمل الديمقراطي. وخلال سنوات عمله في السلطة التشريعية لم يكتف الظهراني بافتتاح الجلسات وإدارتها وضبطها ورفعها كأحسن ما يكون، وإنما قام أيضاً بتمثيل مجلس النواب في مختلف الفعاليات والمؤتمرات العربية والإقليمية والدولية، والإشراف على عمل جميع لجان المجلس وأمانته العامة وتوجيهها بالرفق والنصيحة الأبوية، ناهيك عن قيامه بتنظيم العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وتذليل أي معوقات تحول دون تعاونهما لصالح الوطن والمواطن، وقد ساعده في ذلك العلاقة الوثيقة التي ربطته برئيس الوزراء الراحل الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رحمه الله. مقترحات وطنية بنّاءة علاوة على ذلك قدم، بوصفه نائباً منتخباً، العديد من المقترحات الوطنية البناءة مثل مقترح إنشاء «صندوق احتياطي الأجيال» من خلال اقتطاع دولار أمريكي واحد من سعر كل برميل نفط خام يزيد سعره على 40 دولاراً يتم تصديره خارج البحرين، وذلك من أجل استثمار أمواله في ما يعود بالخير للأجيال القادمة. ومن مقترحاته الأخرى التي عكست روحه الإنسانية واهتمامه بتحسين الأوضاع المعيشية لمواطنيه، مقترح تشكيل مؤسسة للطاقة تهتم بإيجاد بدائل غير النفط والغاز، وفكرة معاملة حفظة القرآن الكريم كاملاً في درجاتهم الوظيفية كحاملي الشهادة الجامعية، ومقترح تطبيق البصمة الإلكترونية على الوافدين الأجانب كإحدى الوسائل الأمنية التي تسهم في منع عودة المخالفين والمحكوم عليهم إلى البلاد، واقتراح بتفعيل القرارات الخليجية حول تسهيل تنقل العمالة الوطنية في دول مجلس التعاون الخليجي، وإحلال العمالة الخليجية عوضاً عن الأجانب. إلى ذلك وقف الظهراني خلف تطوير آليات العمل في مجلس النواب من خلال توظيف التكنولوجيا والتقنيات الحديثة فيها، وبما جعلها تستمر بكفاءة إبان الظروف الاستثنائية التي صاحبت جائحة كورونا. والظهراني، الذي مُنح وسام الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة من الدرجة الثانية من قبل الملك حمد بن عيسى آل خليفة في حفل افتتاح دور الانعقاد العادي الثامن لمجلس الشورى عام 1999، تذكر له أعمال وطنية أخرى مثل مساهمته مع آخرين في إعداد مشروع ميثاق العمل الوطني خلال الفترة من 2000 حتى 2001، بوصفه عضواً باللجنة العليا للمشروع. وقيامه بلعب دور مشهود خلال رئاسته وإدارته لحوار التوافق الوطني سنة 2011، بوصفه شخصية وطنية يرتكز عطاؤها وعملها على مصلحة البحرين أولاً وأخيراً. كما يذكر له الكثير من أعمال الخير ومنها تشييده في عام 2021 جامع خليفة بن أحمد الظهراني بمدينة زايد، ودعمه حفلات الزواج الجماعي للشباب. وأخيراً، يحسب للرجل مواقفه الوطنية الأصيلة تجاه بلده وشقيقاته الخليجيات التي عكستها تصريحاته المنشورة ومنها قوله خلال زيارة له إلى الكويت عام 2013 «التاريخ يشهد بأن كل من عادى حكام دول مجلس التعاون لم يربح، وكل الذين يضمرون العداء والبغض لهم سلط الله عليهم الخلافات والفتن ومحقهم».