فرح العرب بالاستقلال عن الاستعمار الغربي منذ الخمسينيات، ولكنها فرحة لم تكتمل إطلاقاً حتى تاريخه، وبعد حوالى ثمانية عقود من هذا «الاستقلال الرسمي». إذ وجد معظمهم نفسه ضحية، أو شبه ضحية، لما يعرف ب«الاستعمار الجديد»؛ وهو الأسوأ، والأشد قسوة من سلفه «الاستعمار القديم». كما أوجدت في عقر دارهم دويلة، خلقت لتكون قاعدة متقدمة ضد كل ما يمثلونه من قيم، وتطلعات مشروعة. أما عن «التضامن العربي- البيني»، فقد تبرعت بريطانيا -كعادتها- بتصميم إطار اتحادي هشّ لهم، كان الهدف منه امتصاص المد القومي العربي، وتحجيمه. وهذا ما حصل، ويحصل، حتى اشعار آخر. والمنطق السياسي والدولي اقتضى -منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية- على الدول الناشئة (الصغيرة، ومحدودة القوة، بخاصة) أن تشرع، فور الاستقلال، بتجنُّب الوقوع في براثن الاستعمار الجديد، وفي تنمية ذاتها تنمية سليمة في كل المجالات، خاصة في المجال السياسي، إضافة الى إقامة تكتل دولي مشترك مع الدول الأقرب. فماذا حصل؟! بمنتهى الاختصار: صحيح، أن هناك عرباً «تقدموا»، أما الغالبية فتخلفت.. في الوقت الذي تعاظمت فيه الأخطار المشتركة، وتعقدت متطلبات التنمية الحقيقية. إن الهدف من تقوية ذات أي دولة عربية، كأي دولة أخرى، ليس مواجهة الأخطار المحدقة فقط (وفي مقدمتها، في حالة العرب، الخطر الصهيوني)، وإنما تحقيق قدر مناسب من التنمية. وتأكد لذوي البصيرة النيرة، والنزيهة، أن التنمية أصبحت واجباً، وأن الخطر الأكبر على الأمة، بأقطارها المختلفة، هو التحالف الصهيوني- الاستعماري، وأن ما عداه من أخطار لا تتساوى مع فداحته. وأن هذا الخطر يتطلب تضامناً بينياً قوياً. وادعت قلة العكس. بل وتمادى بعضها ليرتمي في أحضان من يريد أن يستأصل شأفته من هذه الدنيا، أو يستعبد قومه، على الأقل. **** وسنقصر حديثنا هنا عن «الأخطار المشتركة»، أما الحديث عن التنمية، فنتركه للمتخصصين فيها. يتفنن الكيان الصهيوني -المتمثل في إسرائيل- في الكيد للأمة العربية والإسلامية، والاعتداء والتآمر عليها، على مدار الساعة. ففي كل يوم، تتكشف هذه المؤامرة الصهيونية، أو تلك، ويقع هذا العدوان أو ذاك. ويضحك الصهاينة، وداعموهم، تشفياً وحبوراً، عندما تنجح مكيدة لهم.. بينما يعاني الجانب العربي -في الغالب- من الخسائر الفادحة، في الأنفس والممتلكات، من هذه المخططات، التي يسهم الدعم الأمريكي المطلق، وتعاون بعض بني الجلدة المؤسف في إنجاحها. بدأت هذه اللعبة منذ حوالى قرن من الزمان، عندما قررت الحركة العنصرية الصهيونية اختيار فلسطين وطناً جديداً لليهود.. وما زالت المؤامرة متواصلة، وبزخم متصاعد، وضرر مضاعف. إذ ألحقت حتى الآن دماراً مادياً ومعنوياً هائلاً بهذه المنطقة.. وتسببت في الكثير من المآسي والكوارث فيها، وأخيرها -وليس آخرها- حرب الإبادة الجماعية التي شنتها على غزة، وأسفرت عن قتل وجرح حوالى 200 ألف من سكانها المدنيين الفلسطينيين؛ منهم حوالى 20 ألفاً من الأطفال والنساء، وتدمير أكثر من 80% من بنيتها التحتية..! ونكرر، أن قيام ونمو وتوسع وعربدة إسرائيل، يمكن ردها ل«أسباب» عدة معروفة، أهمها -بالترتيب التنازلي للأهمية- هي: 1- الدعم الأمريكي المغرض والمطلق للحركة الصهيونية. 2- ضعف وتهالك العرب (والمسلمين) 3- التخطيط الصهيوني المحكم والمدروس، والمدعوم بكل وسائل القوة الذاتية الممكنة. ولن يتغير هذا الوضع الخطير والدرامي -من النواحي الإنسانية، على الأقل- ولن تقبل إسرائيل بالتسوية، التي ينادي بها العرب ومعظم العالم الآن، إلا بتغير هذه الأسباب، أو انعكاسها. وهذا يتطلب «تفعيل» المقاومة العربية لهذه المؤامرة المدروسة، وبكل عناصر المقاومة المعروفة. والواقع، أنه ليس أمام العرب الآن، في هذه المسألة (وهي مسألة حياة أو موت) سوى خيارين: إما الاستسلام (ومن ثم الخضوع للإرادة الصهيونية، والعيش أذلاء لها جيلاً بعد آخر)، أو: المقاومة.. حتى يتحقق الحد الأدنى من الحقوق المشروعة للفلسطينيين -على الأقل- وينحسر الخطر الصهيوني عن الأمة، أو يتلاشى. انتهى عصر الاستسلام واللا مقاومة.. وحانت ساعة الاختيار، الحقيقي والنهائي.. فقد تأكد رفض الكيان الصهيوني و(أنصاره) الجنوح للسلم المقبول، بل وتحولت «عملية السلام» إلى مهزلة كبرى.. خاصة عندما تُرك لإسرائيل (من قبل الوسطاء غير النزيهين) إدارة هذه العملية الخادعة، وكما يروق للصهاينة. **** لم يكتفِ الصهاينة باغتصاب فلسطين -بالحجج إياها- وقتل وتشريد أهلها، ونهب ممتلكاتهم، وإقامة كيانهم العدواني فيها، بل امتد أذاهم إلى طول العالمين العربي والإسلامي وعرضهما.. فأضرار هذه المؤامرات تمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي.. وتتسع أكثر، لتمتد من السنغال غرباً إلى إندونيسيا شرقاً، ومن كازاخستان وأذربيجان شمالاً، إلى المحيط الهندي، والصحراء الأفريقية جنوباً. ذلك يؤكد أن هدف هذه الحركة ليس «فلسطين» وحسب، بل كل هذه الأمة.. ويظل «قلب» هذه الأمة مع الفلسطينيين، وإن كبلت أياديها عن نصرتهم المباشرة. فالشعوب العربية والإسلامية تؤيد -بقوة- حقوقهم المشروعة، وتحاول نصرة المظلوم.. خاصة أنه أحد أبنائها، وظلامته واضحة وصارخة.. ثم إن الظالم يستهدف الجميع، وليس ذلك الابن وحده. الأمة العربية، هي العمق الاستراتيجي والظهير للفلسطينيين، الذين يمثلون أيضاً رأس حربتها ضد هذه الهجمة -كما يشير المنطق السياسي. ولولا هذه الحقيقة، لتم استئصال الفلسطينيين تماماً، من كامل فلسطين، وربما ما حولها، أو أجبروا على النزوح الأبدي. كأن قائد الدبابة الإسرائيلية -مثلاً- التي تدمر بيوت الفلسطينيين، وتقتل بعض من فيها، يقدم على ذلك وعينه على الأمة الأكبر (العربية) ويده الأخرى على زناد آخر.. مصوباً -صراحة أو ضمناً- نحوها.. فكأنه ينكّل بالأخيرة أيضاً، وهو ينكّل بالفلسطينيين... لإدراكه -وبقية زملائه- لهذه الحقيقة، التي يستحيل -كما يبدو- تجاهلها أو إسقاطها، دون تسوية.. تحقق حداً أدنى -على الأقل- من الحقوق الفلسطينية، المشروعة والسليبة. وما فتئت إسرائيل تعمل على الالتفاف على قبول «حل الدولتين»، المجمع عليه فلسطينياً، وعربياً وإسلاميا ودولياً، وتحاول قتل هذه المبادرة ووأدها، بشتى الطرق، التي منها: إقامة المستوطنات في الأراضي المحتلة، والاجتياحات العسكرية، والاغتيالات السياسية المتكررة، وما إلى ذلك من المراوغات والجرائم الإسرائيلية المألوفة.. حتى إنها تكاد تختصر كامل القضية برمتها في مسألة «إعادة انتشار» أمني وحسب. **** أمسى من الضرورات الملحة القصوى، قيام العرب، بدءاً من هذه المرحلة، التي يمكن تسميتها ب«مرحلة ما بعد غزة»، بوضع استراتيجية سياسية محكمة، ذات شقين؛ قطري وقومي، لتقوية الذات العربية، تقوية حقيقية سليمة، تمكن هذه الأمة من دخول العصر، وضمان مستقبل أجيالها، ومواجهة التحديات فادحة الخطورة، بفعالية ونجاح.