يأتي رمضان مذكّراً الجاحدين المعرضين بصلات الرحم وزيارة من هم بحاجة إلى عون ومساعدة، خصوصاً تلك الفئات المنسية التي قدر عليها أن تقضي الشهر وأيامها التي قبل، في مصحّات النقاهة ودور العجزة والمعاقين وعلى الأسرة البيضاء.. «منسيون لا أحد يكفكف دموعهم»! الظاهرة بدأت تظهر للعيان وباتت أكثر وضوحاً وجلياً حتى بين الجيران المتلاصقة جدران بيوتهم، على الرغم من أن خطب الجوامع بين الحين والآخر، تذكر بأهمية التواصل والتوادد، وقبل مجيء الشهر الكريم حرص أئمة المساجد وخطباء الجمع، في النصح والتذكير باستغلال الشهر في التواصل والتراحم لإدخال الأمل في قلوب البعض، وأن هناك اهتماماً ومحبة، وأنهم ما زالوا في الأذهان ولم تنسهم مشاغل الدنيا. الفئة المنسية، وبحسب آراء المختصين، من اجتماعيين، ونفسيين، وحتى الأطباء، يشعرون في كل يوم يمر عليهم دون أن يطرق أحدهم الباب عليهم أو يدخل عليهم ويزورهم يزدادون ألماً أشد مما يعانون، لأن قلوبهم تتقطع لرؤية زائرهم من الأقارب والأحباب وحتى الأصدقاء الذين نسوهم في زحمة الحياة. ويشدد المتحدثون ل«عكاظ»، على أن هؤلاء ينتظرون من يأتي إليهم ليملأ حياتهم أملاً ويبادلهم الحديث ويشاطرهم الابتسامة.. فلا تعوّضهم رائحة الأقارب أي رائحة ولا يخفف عزلتهم غير عُرى إيمانهم الوثيقة بالله، وكأنهم كلّما اشتدت العزلة الاجتماعية عليهم، رددوا «إن الله معنا».. سيأتون سيأتون! زورونا في كل حين منظمة الصحة العالمية، كشفت في منشور سابق، أن الشعور بالوحدة والعزلة الاجتماعية يعد من عوامل الخطر الرئيسية لحالات الصحة النفسية في المراحل العمرية المتقدمة، وأن كل واحد من كل ستة مسنين، يتعرّض لإساءة المعاملة، ويتعايش نحو 14٪ من البالغين 60 عاماً أو أكثر من العمر مع الاضطرابات النفسية، فيما تمثل الاضطرابات النفسية بين كبار السن 10.6٪ من مجموع سنوات التعايش مع الإعاقة لهذه الفئة العمرية. يقول محمد مصطفى كفيه: «رمضان هو شهر محبة وأمل وسلام ومصالحة مع النفس ومع الآخرين، وفرصة للتقارب وإصلاح ذات البين، ففيه نفحات أيام منفرجة، وفيه نفحات أيام تدخل البهجة إلى القلوب، ويشعر فيها المرء بالسعادة عند رؤيته لجاره أو زميله أو أي شخص غاب بسبب ظروف الحياة عن ناظريه، فأيام رمضان العطرة فرصة منحها رب العباد في محاسبة النفس في العمل مع الرب ومحاسبة النفس في تعاملنا مع أنفسنا ومع الآخرين، وأيضاً أيامه العطرة هي فرصة لتأكيد التراحم والترابط والتكامل في ما بيننا البين، ننشر فيها المحبة والرحمة والتوادد». ويضيف كفيه: «إن شهر رمضان، تتجلى فيه مشاعر التسامح والتصالح، ونحذر من أن تغلب علينا مشاغل الدنيا وضيق النفس وأن نستغل هذه الأيام في مد يد المحبة وإعادة توطيد العلاقات وغلق باب الخصومة والخلافات وأن نملأ حياتنا بالتسامح وصفاء النفوس».ويشير أبو عمار، إلى أنه يتألم حين لا يشاهد أقارب أحد المنومين بدور الرعاية يذهبون إليهم. فيما قال غزاي العتيبي: إنه دائماً يزور ابنه المنوّم في إحدى الدور لأهمية الزيارة. ويذكر حسين البقمي، أنه زار أحد أقاربه وشعر بعتبه لانقطاع الزيارات عنه. ولفتت أم سعود، إلى أن ابنها الذي يرقد على السرير الأبيض يبكي كلما شاهدها تزوره ولسان حاله يقول زورونا في كل حين. فيما أكد مقعدون وكبار سن انقطاع الزيارات عنهم لفترة طويلة، سبب لهم الكلل والملل من كثرة السؤال عن محبيهم الغائبين. أمزجة كبار السن المستشار الأسري الدكتور صالح جعري الزهراني، يقول: في زمننا هذا تتسارع خطوات الحياة حتى نغفل فيها أحياناً عن أبسط الأمور الإنسانية، فنجد أنفسنا أمام فئة غالباً ما ننسى ونهمل نزلاء دور المسنين الذين عاشوا حياةً حافلةً بالتجارب وقدموا الكثير للمجتمع، لكنهم الآن في أمسّ الحاجة إلى الدعم والرعاية؛ فبعضهم من عائلاتٍ فقيرةٍ أو منفصلون عن عائلاتهم، وواجبنا تجاههم أخلاقي وإنساني يقع على عاتق كل فرد في المجتمع؛ تقديراً لما قدموه لنا وللمجتمع وإهمالهم وتركهم في دور المسنين دون عيادتهم وزيارتهم وخلق الأنس والبهجة لهم، يُعدّ قسوةً وظلماً لا يقبله خلق ولا دين، زيارتهم واجبٌ ديني إذ حث الإسلام على احترام كبار السن ورعايتهم، فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قال: «من أكرم شيخاً مسلماً لعمرِهِ، أكرمهُ اللهُ تعالى بما يبلغُهُ من كبرِ سنهِ»، فإنّ رعايةَ كبار السن تعد عبادةً وقربةً إلى الله تعالى، وبالتالي يمكننا مساعدة نزلاء دور المسنين بعدة أمور؛ منها التطوّع في دور المسنين لقضاء بعض الوقت مع نزلائها والتحدث إليهم ومشاركتهم في الأنشطة المختلفة. فالتطوع لزيارتهم يساعد على تحسين الحالة النفسية والمزاجية لكبار السن ويشعرهم بالاهتمام والتقدير، كما يمكننا تقديم الدعم المادي لدور المسنين من خلال التبرع بالمال أو بالمواد الغذائية والطبية؛ لكي نسهم في تحسين الخدمات المقدمة لكبار السن في تلكم الدور. صدامات ونزاعات عائلية رئيس جمعية العلاج الآمن طلال محمد الناشري، يرى أن هناك مجموعة قليلة من المرضى في المستشفيات لا يزورهم أفراد أسرهم، وهذه المشكلة تظهر في بعض الأسر التي تعاني من ضعف الوازع الديني أو التفكك الأسري، وهناك بعض الأسباب لهذه المشكلة؛ منها العوامل الاجتماعية والاقتصادية، التي قد تكون السبب وراء عدم زيارة أفراد الأسرة والانشغال بالعمل أو العيش في منطقه بعيدة أو التزامات أخرى، خصوصاً إذا كانوا يعيشون بنظام حياة مزدحم. فقد يواجه البعض صعوبة في تخصيص الوقت لزيارة المرضى بانتظام نتيجة للضغوط الاجتماعية والاقتصادية، وهناك عوامل نفسية وعاطفية تجعل بعض أفراد الأسرة يتجنبون زيارة المرضى مثل القلق، الخوف، أو الاتهامات الذاتية، وقد يكون البعض غير قادر على التعامل مع مشاهدة أحبائهم وهم مرضى، ومن الأسباب كذلك كما يقول الناشري: مشكلات العلاقات العائلية فقد تكون هناك صراعات أو مشكلات في الأسرة قد تؤثر على قرار زيارة المريض في المستشفى، كما أن الصدامات العائلية أو النزاعات السابقة قد تكون سبباً لهذا السلوك، ومن المهم توفير الدعم الاجتماعي لمثل هؤلاء المرضى الذين لا يزورهم أفراد عائلتهم، ويمكن للطاقم الطبي والاجتماعي في المستشفى العمل على توفير بيئة داعمة وتفهم الأمور من خلال التواصل المستمر مع المرضى وتشجيع زيارة الأهل، كما يجب فتح الحوار حول هذا الموضوع لفهم الأسباب والسعي إلى حلول تعزز الدعم الاجتماعي والعلاقات العائلية الصحية. تهادوا تحابوا كشف الاخصائي النفسي خالد الغامدي، أن هذه الفئة غالية علينا جميعاً، وهم النزلاء في دور الرعاية الاجتماعية أو وزارة الصحة، وكل إنسان من هؤلاء هو عضو في أسرته ومجتمعه، وعلينا جميعاً دعمهم من الناحية النفسية والاجتماعية، وحول أثر الزياره على النزيل من الجانب النفسي، قال: إنه يعدل مزاجه من مرحله العزلة والانطواء إلى السعادة، وننصح الأهل دائماً بألا يكون هناك غياب طويل كي لا يفتقد الجو الأسري، مع الحرص على تقديم الهدايا وأخذهم في زيارات منزلية لمده أسبوع أو أقل لتغيير الأجواء وتحسن النفسية، مضيفاً: أن النزيل يستطيع الخروج والعودة في أي وقت، متى ما وجد الدعم والاحتواء سواء من الأسرة أو المجتمع، مع أهمية الكلمة الحسنة والابتسامة التي أثبتت التجارب مردودها الإيجابي والاستقرار النفسي الذي يشعر به هؤلاء، وألا نغفل الجانب الديني الشرعي في صلة الرحم، ناصحاً من لديه أب أو أم أو أخ أو قريب من هذه الفئة، أن يصنع له الابتسامة، خاصة أن الدولة لم تقصر في الجانب العلاجي والغذائي وما يتبقّى هو دور الأسرة الذي يتمثل في الاحتواء. مناسبات وزيارات مفتوحة كشف أستاذ التواصل بجامعة الملك سعود طارق الأحمري، أن قطاعات الإعلام والاتصال في دور الرعاية لكبار المسنين وللأيتام ومستشفيات الصحة النفسية، تحتاج إلى دور أكبر في رفع تشاركية المجتمع من خلال أدوات اتصالية مواكبة للتقدم الذي يحصل في المجال، إذ تحتاج تلك الفئات إلى انخراط عميق في المجتمع من خلال المناسبات واللقاءات والزيارات العامة المفتوحة والمبادرات المجتمعية، كما تحتاج لأن ينال المجال دوراً أوسع من مشاركة المؤثرين والمشاهير ومبادرة الشركات والجهات لوضع اللقاءات والرحلات والاجتماعات، إذ إن هذا النوع من المجتمع لا يجب أن يكتفي بالتواصل عبر الأجهزة أو جهود التغطية البدائية، بل يحتاج لجهد عميق شامل ومتنوع لتحقيق الوعي المجتمعي من جهة ولتقديم مبادرات واقعية، وعلى عاتق تلك الجهات تقوية أجهزتها الاتصالية والإعلامية بالكوادر والميزانيات والدعم اللازم حتى نرى الوصولية العالية والقصص الإيجابية للمجتمع، ولا يجب أن تبقى تلك الجهات وكأنها دور مغلقة وأسوار سرية، بل يجب أن نتيح المجال لهم ونعيش معهم بما يحفظ لهم خصوصيتهم وقدرهم وحالاتهم الصحية. صياغة المفاهيم الخاطئة مدير العلاقات العامة والإعلام بتجمع الطائف الصحي ياسر صالح السفياني، يؤكد أن الحياة تأتي بالتكامل في الأدوار والتعاون في المهمات فالموضوع لا يختص بجهة أو فرد بعينه، بل منظومة يجب أن تدار لحل هذه الإشكالية الإنسانية بشكل صحيح تبدأ من الأسرة وتنتهي بالمجتمع أفراداً وجهات، كما أن الإعلام والمؤثرين وأصحاب الرأي شركاء حقيقيون في إيجاد وبلورة مشروع وطني لكسر هذا الحاجز الذي سور عقول الأفراد بشكل سلبي تجاه فئة قد يكون أحدهم أباً أو أماً أو أخاً أو أختاً، بل قد يكون قريباً أو صديقاً لك أو له أو لهم، حتى نعيد صياغة المفاهيم الخاطئة التي علقت بعقول كثير من الناس حول ساكني تلك الدور من المنسيين. مضيفاً لو أمعنا النظر في كيفية وضع حلول لرأينا ضرورة وجود مؤسسات مدنية تكون الأسرة لاعباً رئيسياً فيها تقوم على تبني مبادرات ومشاريع تستطيع دمج هؤلاء الفئة من خلال التعليم والتأهيل العملي والوظيفي بأعمال تناسب أوضاعهم ومهاراتهم. ويضيف السفياني، أن مشكلة المنسيين ليست مشكلة خاصة بنا بل على العكس هي مشكلة على مستوى دول العالم وعليه يجب أن نعترف أولاً أن مشكلة المنسيين تبدأ من الأسرة وتنتهي بها فالدور الأكبر يقع على أفرادها في احتضان أبنائهم وإيصال الأحاسيس التي فقدت لدى هؤلاء المنسيين وبأنهم جزء من هذه الأسرة أو تلك ومن ثم يأتي دور المجتمع بكافة أطيافه لإعادة مكانتهم واعتبارهم النفسي والاجتماعي والإنساني.